يتفاعل موضوع النّزوح السوري أكثر فأكثر لأنّه بات موضوعًا وجوديًّا وكيانيًا ، لأنّه يعرّض الكِيَان الذي ناضل اللبنانيّون للوصول إليه لأكثر من ألف وأربعمئة سنة من المقاومة اللبنانيّة الأصيلة ، للخطر . ولا يمكن النظر في الموضوع الكِيَاني من دون البحث في طبيعة ولادة لبنان الكبير على القاعدة الكِيَانيَّة التي جمعت المكوّنات الحضاريّة على اختلاف انتماءاتها.
وبحسب ما ورد في كتاب المفكّر أنطوان نجم ” سراب الفكر القومي وواقع الهوية المجتمعيّة” الصادر في العام ٢٠٢١، في الصفحة ١٣٩ منه يعتبر نجم أنّ ” الواقع المجتمعي اللبناني تعدّدي وتعدّديّته ثنائيّة. وكلّ واحدة من هذه الثنائيّة متعدّدة بدورها. ويبدو هذا الأمر من خلال حسّ الانتماء والشعور الطائفي والسياسي التلقائي الداخلي العفوي، على أصعدة وعي الذات، وردود الفعل، ورؤى المصالح الوجوديّة العليا، والنظرة إلى دولة لبنان وسيادته.”
• موجات الهجرة
وصولاً إلى الاصطدام الذي وقع في القرن التاسع عشر ونتجت عنه موجة هجرة أولى، وصل فيها اللبنانيّون الى شواطئ أميركا الجنوبيّة لا سيّما البرازيل. فضلاً عن التضحيات الجسام التي تعرّض إليها المجتمع اللبناني بشكل عام، وبالتحديد المسيحي؛ بدءًا من “كفنو” أي الإبادة الجماعيّة التي تعرّض إليها مسيحيّو جبل لبنان على يد الدّولة العثمانيّة إبّان الحرب الكونيّة الأولى. فنتجت عنها الموجة الثانية من الهجرة اللبنانيّة. مرورًا بالخضّات الأمنيّة، وصولاً إلى الحرب التي خاضها الفلسطينيّون على الأرض اللبنانيّة لتأسيس وطنهم البديل، ما دفع إلى موجة هجرة ثالثة في ثمانينيّات القرن الماضي. وليس انتهاءً بالحرب التي خاضها الرئيس السابق ميشال عون على حزب القوّات اللبنانية بحجّة توحيد البندقيّة، فحصلت الموجة الرّابعة. أمّا اليوم ونتيجة للأزمة الاقتصاديّة فلقد ضربت المجتمع اللبناني موجة خامسة من الهجرة عمادها المجتمع المسيحي.
• إختلاف المقاربات والمناطق الآمنة
أمام موجات الهجرة الخمس هذه، ومع موجة النّزوح التي عرّضت الكيان للإهتزاز، كثر المنظّرون وغابت الحلول العمليّة لهذا الموضوع. فضلاً عن ضغط المجتمع الدّولي في هذا الموضوع الذي لا يصبّ في خدمة الكيان اللبناني. لأنّ مقاربة المجتمع الدّولي لهذا الموضوع تختلف عن المقاربقة الوطنيّة له. فلبنان يراه تهديدًا كِيَانيًّا، فيما المجتمع الدّولي يقارب هذا الموضوع مقاربة إنسانيّة بحتة، شرط ألا يتعدّى خطر هذا الملفّ الحدود اللبنانيّة ويطال أراضي القارّة العجوز المنهكة بتداعيات الحرب الأوكرانيّة.
وفي هذا السياق كان لموقع Lebanese daily حديث خاص مع عضو “تكتّل الجمهورية القوية” النائب بيار بو عاصي، الذي شغل منصب وزير الشؤون الاجتماعيّة بين عامي ٢٠١٦ و ٢٠١٩ في الحكومة التي ولدت في 18 كانون الأول 2016 من ثلاثين وزيرًا بعد شهر ونصف الشهر من تكليف الرئيس اللبناني ميشال عون لسعد الحريري بتشكيلها، في خطوة أتت تتويجًا لتسوية سياسية وافقت عليها معظم الأطراف الرئيسية.
ويلفت بوعاصي في حديثه لموقعنا إلى أنه منذ بدء النزوح السوري إلى لبنان في العام ٢٠١٢ مع اندلاع الأحداث في سوريا، ومن ثم استفحاله في العامين ٢٠١٣ – ٢٠١٤ مع اشتداد المعارك في معظم أراضيها، “كان حزب القوات اللبنانية، الذي لم يكن مشاركًا وقتها في الحكومة، يطالب بإقامة مناطق آمنة داخل سوريا، لإقامة مخيمات للنازحين القادمين من المناطق المتوترة، على أن تكون تحت الحماية الروسية”.
ويشير بو عاصي لموقعنا إلى ” أنّ الحزب “تواصل مع الجانب الروسي لتأمين تلك المناطق، إلا أنه لم يلقَ تجاوبًا من جانب روسيا، واستمرّ تدفق النازحين الى لبنان ليصل عددهم حاليًّا إلى اكثر من مليون ونصف المليون نازح”.
• خطّان حكوميّان متوازيان في مقاربة الملفّ
ويوضح بو عاصي لموقعنا بأنّ “القوات اللبنانية طالبت منذ بداية النزوح، بأن تتخذ الدولة اللبنانية قرارات للسيطرة على هذا النزوح والحدّ من أعداده، إلا أن الحكومة لم تتخذ أي قرار في هذا الشأن”. ويلفت إلى تشديد “القوات” في مؤتمر بروكسل “على أهميّة الحفاظ على المصلحة الوطنية العليا من خلال البدء باجراءات عودة النازحين الى بلدهم، بعد عجز لبنان عن تحمل أعباء أعدادهم الكبيرة”.
ويذكّر بوعاصي بأنّ وزارة الشؤون الاجتماعية عندما كان هو على رأسها، “لعبت دور أداة الوصل ما بين المنظمات الدولية والنازحين السوريين في عمليات توزيع المساعدات، وذلك بهدف تأمين الرقابة من قبل الدولة اللبنانية داخل المخيمات وخارجها”.
• مقاربة حزب القوّات اللبنانيّة راهنًا
ويعلن بو عاصي ل Lebanese Daily أنّ للقوات اللبنانية في الفترة الراهنة مقاربة “تنطلق من مبدأ ثابت، ويتمثل في أنّ النازحين بمعظمهم دخلوا لبنان هربا من المعارك. لكن، وبعد انتهاء الحرب، فإن معظم هؤلاء لا يزالون في لبنان لأسباب اقتصادية وليست أمنية، تحديدًا بسبب التقديمات التي تؤمنها المنظمات الدولية لهم”.
ويكشف بوعاصي أنّ الاجتماعات التي حضرها في نيويورك وواشنطن وباريس، “ركزت من الجانب اللبناني على مبدأ تهديد وجود النازحين السوريين للكيان اللبناني بشكل عام، وبأنّه لابدّ من عودتهم إلى بلدهم بأسرع وقت ممكن” ، مستغربًا كيف أنّ المنظمات الدولية، “التي توجّهت بالشكر إلى لبنان على استضافته للنازحين بالرغم من عبئهم الثقيل عليه، تؤكّد في المقابل أنّ شروط عودتهم غير متوفرة، من دون أن يقدموا شرحًا حول تلك الشروط”.
ويخلص في حديثه إلى أنّ النزوح السياسي السوري إلى لبنان اليوم “ضئيل جدًّا في مقابل النزوح الاقتصادي الكبير”. رافضًا أن ندفع في لبنان “تبعات المشاكل الإداريّة في سوريا، لا سيّما بعد حديث بعضهم عن احتراق دوائر النفوس في بعض المناطق السورية، تحديدًا في حلب”.
• بداية الحلّ
ويرى بو عاصي أنّ بداية الحلّ تكون في “إحصاء النازحين السوريين على المستوى البلدي، وتصنيفهم بين نازح سياسي أو اقتصادي أو أمني، إلى جانب تطبيق شروط الإقامة عليهم لجهة دفع الضرائب والرسوم في النطاق البلدي”. أما في حال عدم التزامهم بتلك الشروط، أو عدم مطابقتهم لمعايير النزوح، رأى بوعاصي أنّه “يجب إخراجهم من البلدة أو القرية، على أمل أن يحفزّهم هذا الأمر على عودتهم الى بلدهم”.
ويطالب المنظمات الدوليّة “وقف تمويل هؤلاء النازحين، الذين بقوا في لبنان لأسباب اقتصادية، وهو أمر في حال حصل، سيدفعهم للعودة الى سوريا”، مشدّدًا على قدرة تلك المنظمات على تأمين المساعدات لهم في داخل الأراضي السورية.
وفي الختام يؤكّد بوعاصي “قدرة الحكومة اللبنانية، على الفرض على الدول المانحة ومنظمات الامم المتحدة كافّة، وقف مساعداتها للنازحين السوريين على الاراضي اللبنانية، في حال تحمّلت مسؤوليّاتها واتّخذت القرار السيادي المناسب بذلك”. لكن على ما يبدو لا زال هذا المسار طويلاً ومتعثّرًا لأنّ المجتمع الدّولي يتمسّك حتّى الساعة بمقاربته لهذا الملفّ.
لكنّ ذلك رهن بالتغيّر والتبدّل إذا ما توفّرت الإرادة اللبنانيّة بذلك. ولا يعتقدنَّ أحد في لبنان أنّه قد يكون بمنأى عن تداعيات هذا الملفّ التي تمسّ الكيان في الصميم. فهل يجتمع اللبنانيّون ولو مرّة واحدة في ظلّ هذه الانقسامات، ليحافظوا على مكتسباتهم الكِيَانيّة؟ أم أنّ مصلحة فريق إيران في لبنان، المرتبط إيديولوجيًّا بوليّه الفقيه، قد تطغى على المصلحة اللبنانيّة العامّة والمشترَكَة؟
الكاتب د.ميشال الشماعي
المزيد من القصص
باسيل في العشاء السنوي ل “التيار الوطني
النائب نديم الجميّل في معراب
النائب أشرف ريفي