لم يبدُ رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع في القدّاس السنوي لشهداء المقاومة اللبنانيّة مرتبكًا لا يعرف ما يقول. فبغضّ النّظر عن تعقيدات الأوضاع السياسيّة والاقتصاديّة وحتّى الاجتماعيّة منها؛ إلا أنّ الرّجل أظهر ثقة ليست غريبة عن تاريخه السياسي ولا حتّى العسكري. فخطاب قدّاس لتبقى لنا الحرّيّة تميّز عن غيره من الخطابات ببعدٍ إيمانيٍّ لاهوتيٍّ غالبًا ما برع جعجع به بعد تجربته في النسك الإرادي في سجنه طوال 4114 يومًا من المواجهة التي اختارها على مساحة زنزانة بحجم الوطن آنذاك.
بدأه جعجع بالهجوم المباشر على فريق المنانعة ناعتًا إيّاهم بالجبناء، «جُبَناءُ هُم، والليلُ عباءةُ إجرامِهم والنّهارُ أيضًا.» في اتّهامٍ واضحٍ لمنظمة حزب الله بالضلوع في جريمة الياس الحصروني مدعّمًا فرضيّته بالكشف عن مكان القرى الأربع التي انطلقت منها السيارات التي نفّذت عملية الاغتيال. فحضور القوات الأمني لم تستطع هذه السنين محوه. فهي لا زالت حاضرة عندما تدعو الحاجة لذلك، وفي قلب مناطق منظمة حزب الله. جعجع لا يرفض أيّ حوار مع أيّ فريق لبناني سياسي منطَلَقه ومرجعُه وكِيانُه هو لبنان بتاريخه وحضارته التعدّديّة؛ لكنّ تمسّكه بجوهر وجود الدّولة يجعله حجر الزّاوية في مقاربة أيّ دعوة للحوار من أينما أتى مصدرها. فبالنسبة إليه خارطة الطريق الوحيدة للحوار الوطني تبدأ باستعادة السيادة عبر استرجاع الدّولة اللبنانيّة التي نجحت منظمة حزب الله باحتلالها سياديًّا. وذلك لن يتمّ إلا عبر الوصول إلى رئيس جمهوريّة هويّته الشخصيّة تكون هويّة الدّولة برمّتها للمرحلة المقبلة.
في هذا السياق، جدّد جعجع دعوته لكلّ المتردّدين بحسم خيارهم الرئاسي لأنّ هذه المسألة كما نبّه في خطابه هي مسألة وجود من عدمه. إن لم يحسم هؤلاء موقفهم من الملفّ الرئاسي سوف لن تتمكّن الدّولة من النّهوض في الميادين كافّة، لو قدّم محور الممانعة تنازلات العالم كلّها على مذبح الغرب الذي يصنّفه مستكبرًا ومستعمِرًا. وذلك لأنّ مسار التّاريخ واحد وواضح لا يتبدّل. فالحقّ يبقى حقًّا لو لم يؤيّده أحد، والباطل يبقى باطلاً لو أيّده العالم كلّه. كما جدّد دعوته للبنانيّين جميعهم ليحاسبوا مَن أعطوهم أصواتهم في العام 2022 ليكونوا أمناء حقيقيّين على أمانتهم؛ ولو بطريقة غير مباشرة باستعادته شعار القوات الانتخابي نحن بدنا ونحن فينا؛ فلم تأتِ العزائم على قدر أهل العزم، ويرغم ذلك تعمل القوات منذ انتهاء الانتخابات النيابية بالوزنات التي منحها إيّاها اللبنانيّون الأحرار. فالقواتيون لا يساومون ولا يقدّمون أيّ تنازلات من كرامتهم الانسانيّة لحساب مصالح خاصّة سرعان ما ستصبح ترابًا. فالتبدلات الاقليميّة قادمة بسرعة الريح، ولا بدّ من مواكبتها بحراك كيانيّ ينطلق من جوهر الوجود اللبناني، أي عبر الحفاظ على تلك الحرّيّة التي كرّس نفسه جعجع للحفاظ عليها، تمامًا كرفاقه الشهداء الذين رحلوا لتبقى لنا هذه الحرّيّة. وما دعوته اليوم اللبنانيّين إلى التمسّك أكثر ببقائهم في لبنان إلا فعل تثبيت إيمانيّ يمارسه جعجع وحزبه مجتمعًا بهذه الأرض التي يعتبرها مقدّسةً انطلاقًا من قدسيّة الشهداء. لذلك كرّر دعوته إلى اللبنانيّين كلّهم للصمود في هذه المرحلة، وبالتعاضد والتكاتف المجتمعي بهدف اجتياز هذه الأيّام العصيبة. وهو الذي أكّد مجدّدًا مستشهدًا بتجربته الشخصيّة بأنّ كلّ شيء مؤقّت زائل ولن يدوم.
فالله لم يَمُتْ يومًا في إيمان جعجع؛ لذلك هو متفائل برغم الأحداث كلّها. فحتى الدول العظمى التي حاولت مهادنة المنظمة، نجح جعجع باستراتيجيّته الدّفاعيّة بتحوير مبادرتها نحو المشروع السيادي من جديد. وفي هذا السياق تُفهَم دعوة الرئيس بري للحوار كعملية إجهاض للمسعى الفرنسي. أمّا بالتطرّق إلى موضوع منظمة حزب الله ومحور الممانعة بالتحديد فجدّد جعجع رفضه لهذا الواقع، حيث ذكّر هذه المنظّمة بتنامي رفضها من معظم المكوّنات الحضاريّة اللبنانيّة من بيروت إلى الجبل فطرابلس، وليس انتهاء في قلب مناطقها في الضاحية والبقاع وبعلبك الهرمل. وهذه الحالة الثورويّة من داخل البيئة التي حضنت هذه المنظمة طوال أربعة عقود ستتزايد أكثر فأكثر لأنّها لا تشبه النسيج الكياني اللبناني. فبنهاية المطاف، مجتمعنا يتفاعل بالنمذجة المجتمعيّة، وإلا ستتحوّل بيئته الحاضنة إلى قوقعة مجتمعيّة ستنقرض مع الزّمن لأنّ كلّ ما لا يتطوّر ينطفئ. وما لا نرضاه ككِيانيّين على أنفسنا لن نرضى به تصرّفًا منّا مع غيرنا.
ولن نوفّر أيّ جهد في قضيّتنا الانسانيّة التي ترتبط بكشف مصير رفاقنا في سجون النّظام السوري. ولعدم ثقتنا ببعض قضاة دويتّو المنظومة والمنظّمة في لبنان لجأنا كما في قضيّة تفجير مرفأ بيروت إلى القضاء الدّولي. ولا بدّ واصلون إلى الحقيقة لأنّنا لن نترك قضايانا تموت. كما ذكّر جعجع القضاء اللبناني بضرورة البتّ بقضيّة القرنة السوداء وغيرها من الإشكاليّات العالقة قضائيًّا لأنّ النّاس لم تعد قادرة على تحمّل هذا الظلم، ولن يتمكّن أحد من ضبط ردود فعلها. وقد شهدنا ذلك في مواضع عدّة مرشّحة للتّزايد في حال لم يتمّ حسم الأمور.
وفي الختام جدّد جعجع وعده لشهداء المقاومة اللبنانيّة بعدم المهادنة والتنازل تحت أيّ ظروف كانت، حتّى لو أدّى ذلك إلى تكرار تجربتهم ولو مرغمين. فنحن نملك ما يكفي من الجهوزيّة وفي مختلف الميادين. مواجهتنا مستمرّة من تحت قبّة البرلمان لتحقيق ما ينصّ عليه الدّستور اللبناني بدءًا باللامركزيّة الموسّعة وليس انتهاء بتطوير الدّستور اللبناني ليواكب التطوّرات المجتمعيّة التي قلبت التركيبة اللبنانيّة رأسًا على عقب. وفي تجديده هذا تهديد واضح لمحور الممانعة وإعلان صريح بالمواجهة ولو بالمباشر إن أراد هذا المحور ذلك. فلن نسمح له بأن يأكلنا ونحن نجالسه على طاولة حوار سرعان ما ستنتهي بقتلنا، تمامًا كما فعل مع دولة الرئيس الحريري وشهداء ثورة الأرز. فقبل كلّ شيء، إن لم تكن لنا الحرّيّة لن نكون. لذلك لتبقى لنا الحرّيّة سنكون حيث لم يجرؤ الآخرون.
د. ميشال الشماعي
المزيد من القصص
باسيل في العشاء السنوي ل “التيار الوطني
النائب نديم الجميّل في معراب
النائب أشرف ريفي