خلط الأوراق من قطع الأرزاق

لا يشكّ عاقل أنّ المسار الذي اتّخذته قمّة جدّة واتّفاق بكين قد سقط. وذلك نتيجة عدم التزام أطراف محور  الممانعة بتعهّداتهم. فتسليح الحوثيين في اليمن استمرّ وبوتيرة أكبر. والسلطات العراقيّة أمعنت في  تضييقها على الأحرار خدمة لسلطة إيران وحكومتها، وليس آخر  تجليّاتها ما صدر بحقّ الكاردينال ساكو، بطريرك الكلدان في العراق. أمّا في لبنان فإشعال فتيل الصراع بين الفصائل الموالية لإيران وتلك التي تمثّل السلطة الفلسطينيّة في  مخيّم عين  الحلوة ليس إلا مؤشّر إضافيّ على نظريّة وحدة الساحات من غزّة إلى طهران، تلك التي تسوّقها الجمهوريّة الإسلاميّة وتنفّذها أذرعها في أماكن تواجدها.

وفي المعلومات التي تتقاطر تباعاً يوماً بعد يوم، أنّ الاستعدادات العسكريّة تتزايد في  المنطقة عموماً ولا سيّما في شرق سوريا وعلى الحدود العراقيّة حيث تمّ إقفال المعابر بين سوريا والعراق ما أدّى إلى قطع شريان الوصل بين الأذرع الإيرانيّة في  المنطقة، وكسر ما عمل نظام الملالي على تكريسه في  المنطقة تحت مسمّى الهلال الشيعي. إضافةً إلى ذلك،  وردت معلومات تشير إلى أنّ الأذرع الإيرانيّة بما فيها منظمة حزب  الله في لبنان، والحشد الشيعي  في  العراق، والفصائل الشيعيّة في سوريا، إضافةً إلى بعض الفلسطينيّين الذين نجحت منظمة حزب  الله في لبنان بتجنيدهم خدمة لمشروعها الثورويّ  التوسّعي، يحشدون قوّاتهم في مجرى نهر  الفرات. وذلك تحضيرًا لمواجهة عمليّة إقفال المعابر بين سوريا والعراق لأنّ هذا الأمر بالنسبة إلى إيران هو أمر استراتيجيّ إن نجحت الولايات المتّحدة به يعني ذلك عمليًّا شرذمة مخطّط إيران في  المنطقة؛ وهذا ما تعتبره إيران بمثابة إعلان حرب  مباشرة عليها.

وفي  المعلومات أيضًا، أرسلت الجهات الأميركيّة أكثر من رسالة مفادها أنّ أيّ محاولة عسكريّة لإعادة وصل هذا الطريق ستواجه بالمثل. ويضاف إلى هذه المشهديّة المشتعلة التصريحات الإعلاميّة التي تتوالى من قبل إسرائيل حيث بدا لافتًا أمس تصريح وزير  خارجيّتها ” إيلي كوهين” الذي حذّر دولة لبنان بعد التوتّرات التي شهدتها الجبهة اللبنانيّة – الاسرائيليّة معلنًا أنّ “باستطاعة إسرائيل إعادة لبنان إلى العصر الحجري.” وهذا التهديد لم يكن جديدًا من  إسرائيل بل الجديد كان في حديث كوهين لإيلاف حيث رأى فيه أنّ  الأمين العام لحزب  الله حسن نصرالله يقوم بخدع في  الخيام بينما هو يختبئ … ونحن نستطيع الوصول إلى كلّ شخص في  كلّ مكان. لكنّنا نعالج كلّ شيء في  الوقت المناسب. وفي هذا الموضوع نترك لأنفسنا كلّ الامكانيّات متاحة، الديبلوماسيّة والعسكريّة أيضًا.” وأوضح كوهين قائلاً :” دولة إسرائيل تستطيع الوصول إلى كلّ شخص  في  كلّ مكان.”

يبدو من هذا الحديث المستجدّ بأنّ إسرائيل تعدّ لعمل عسكريّ ما قد يستهدف نصرالله بالشخصي. ولعلّ هذا ما قد يشعل المنطقة برمّتها. معطوف على ذلك، التحذيرات  الأميركيّة المتتالية للفصائل الإيرانيّة على الحدود العراقيّة – السوريّة، ذد على ذلك الفشل الذريع الذي أصاب اتّفاق بكين الأخير؛ ضف إلى ذلك ما صدر مؤخّرًا عن جون كيربي المتحدّث باسم مجلس الأمن القومي الأميركي لدى حديثه عمّا رشح من معلومات عن انتشار أميركي عسكريّ مزمع في محيط مضيق هرمز، وذلك لحماية أمن الناقلات النفطيّة، ومنع الجمهوريّة الاسلاميّة في إيران من تكرار اعتداءاتها على هذه السفن، حيث يعتبر كيربي في  حديثه أنّ “مضيق  هرمز ممر بحري حيويّ له تأثير كبير في التجارة البحريّة حول العالم”. كما لا يمكن إغفال زيارة وزير  الدفاع الأميركي ” لويد اوستن” إلى الأردن،الحليف القوي لأميركا، وفي جولة شرق أوسطيّة شملت مصر وإسرائيل أيضًا لطمأنة حلفائه، التي تزامنت أيضًا مع زيارة  رئيس  هيئة الأركان المشترَكَة ” الجنرال مارك ميلي” إلى شمال سوريا وإسرائيل في  مطلع شهر أيّار المنصرم.

يضاف إلى ذلك التوتّر الذي حصل بين على حقل الدرّة حيث ما زالت الجمهورية الاسلامية في إيران تصرّ على  الإدعاء بحقّها في حصةٍ لها في الحقل المذكور، بينما كلا من السعودية والكويت ترفضان ذلك وتعتبران أنّ هذا الحقل هو حقل سعودي-  كويتي مئة بالمئة.

هذه المعطيات كلّها مجتمعةً تشير إلى ارتفاع منسوب حدوث ضربات عسكرية ذكيّة في المنطقة، قد يكون الهدف منها خلط الأوراق بطريقة جذرية بهدف إدخال منطقة الشرق الأوسط بوساطة القوة الذكية الموجّهة في عصر جديد يتطابق مع الرّؤى التي استشرفتها القيادات الرؤيويّة لهذه المنطقة.

وهذا الخلط ينبئ بقطع أرزاق محور الممانعة الذي ما فتئ يستثمر في هذه المنطقة منذ أكثر من أربعة عقود ونيّف. وهذا ما يؤشّر إلى ارتفاع منسوب التفاؤل بمستقبل هذه المنطقة، لكنّ ذلك لا يمنع من التحلّي بالحذر، لأننا نتعامل مع نظام، لا بل أنطمة وفكر، لا تتوانى بقتل أبنائها لتحافظ على ديمومة استمرارها في السلطة.  من هنا، قد يشهد الملف اللبناني إنفراجات سياسيّة إن أحسن بعض المتردّدين الذين ما زالوا حتى الساعة يرفضون اتّخاذ القرارات السياديّة بحجّة عدم رغبتهم في الاصطفاف السياسي؛ لكأنّ قول الحقيقة هو تهمة بالنسبة إلى هؤلاء، وهم الذين انتخبهم الناس تحت مسمّى التغيير. لكن على ما يبدو في لبنان أن كلّ الذين اتّخذوا من الاصلاح والتغيير مشاريع لدخول المؤسسات، إنّما ذلك كان فقط بهدف الوصول إلى جنّات السلطة لا أكثر.

أمّا إذا هؤلاء قرّروا قول هذه الحقيقة فسيدخل لبنان في مرحلة جديدة وانطلاقًا من الارادة الداخلية؛ عسى أن يدرك هؤلاء مدى فداحة موقفهم الجبان، ماذا وإلا نكون قد استجلبنا التدويل بأيدينا إلى وسطنا، وعندها سيكون لبنان بوابة للتدخل الخارجي في المنطقة كلّها. وقد أعذِرَ مَن أنذَرَ.

 د. ميشال الشمّاعي