روسيا لاعب محوري في الشرق الأوسط
في خضمّ التوترات المتصاعدة في الشرق الأوسط، يبرز دور روسيا كلاعب محوري في الصراع العالمي بالمنطقة، حيث تسعى موسكو إلى تعزيز نفوذها باستخدام استراتيجيات دفاعية متنوّعة. وقد تسارعت هذه الجهود منذ غزو أوكرانيا عام 2022، في وقت يتصاعد فيه النزاع بين إيران وحلفائها من جهة، والولايات المتحدة وإسرائيل من جهة أخرى. وتعتبر روسيا من الدول الأساسية في سوق الأسلحة في المنطقة، إذ بلغت صادراتها العسكرية إلى الشرق الأوسط نحو 6 مليارات دولار سنوياً قبل غزو أوكرانيا. ورغم العقوبات الغربية، تواصل موسكو تزويد دول المنطقة بالأسلحة المتطورة، مثل الطائرات المقاتلة وصواريخ الدفاع الجوي، ما عزز مكانتها كلاعب رئيسي في سوق الأسلحة العالمي.
أما على صعيد التعاون العسكري بين روسيا وإيران، فقد شهد هذا المجال تطوراً ملحوظاً، إذ ستوفر موسكو لطهران مقاتلات من طراز “سو 35″، ما يعزز من قدراتها الهجومية. تعكس هذه الشراكة العسكرية تحوّلات استراتيجية في التوازنات الإقليمية، حيث تجري مناورات عسكرية مشتركة بين روسيا وإيران، إضافة إلى التعاون الثلاثي مع الصين. وفي إطار سعيها إلى توسيع نفوذها العسكري، تواصل روسيا تعزيز وجودها في البحر الأبيض المتوسط عبر قواعدها العسكرية في سوريا وليبيا، مع رغبة في الوصول إلى موانئ بحرية جديدة في السودان. وتستعين موسكو في ذلك بشركات عسكرية خاصة، التي تعتبر أداة فعالة في تحقيق أهدافها الاستراتيجية في المنطقة.
النفوذ الروسي في الشرق الأوسط
في حديث خاص لـ “نداء الوطن”، أكد ديميتري بريجع، مدير وحدة الدراسات الروسية في مركز الدراسات العربية الأوراسية، وعضو شبكة محرّري الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وخبير في مجلس الشؤون الدولية الروسي، أن موسكو تدرك تماماً الدور المتعدّد الأوجه الذي تقوم به في الشرق الأوسط. فقد حافظت روسيا تاريخياً على علاقات طويلة الأمد مع دول المنطقة، خصوصاً مع سوريا والعراق. وفي السياق المعاصر، ترى روسيا نفسها كوسيط قوة حاسمة، تسعى من خلال هذا الدور إلى توسيع نفوذها الجيوسياسي وتحقيق استقرار الأمن الإقليمي وموازنة الهيمنة الغربية. تتضمّن أهدافها الرئيسية مكافحة الإرهاب، ضمان الاستقرار الإقليمي، والحفاظ على وجود عسكري استراتيجي قوي. يجسّد التدخل الروسي في سوريا منذ عام 2015 هذا النهج الاستراتيجي، الذي يهدف إلى الحفاظ على حكومة موالية لروسيا وتأمين موطئ قدم استراتيجي عبر القواعد العسكرية، مثل قاعدة حميميم الجوية وقاعدة طرطوس البحرية. كما تضع روسيا نفسها كفاعل أساسي في تعافي سوريا الاقتصادي بعد الحرب، مستفيدة من جهود إعادة الإعمار لترسيخ نفوذها الطويل الأمد.
وحول سوريا، أشار بريجع إلى أن موسكو تعتبر تدخلها العسكري في سوريا ناجحاً بشكل عام، حيث نجحت في الحفاظ على هيكل حكومي موالٍ لها، ما قلّل من التهديدات التي تشكّلها الجماعات المتطرّفة. واعتبرت روسيا هذه “النجاحات” خطوة لتعزيز موقعها الاستراتيجي في الشرق الأوسط وترسيخ البنية التحتية العسكرية والقدرات التشغيلية على المدى الطويل. فالوجود العسكري الروسي يعدّ حاسماً في ضمان بقاء سوريا ضمن مجال نفوذ موسكو، ما يخدم المصالح الاستراتيجية والجيوسياسية لروسيا.
وفي ما يتعلّق بالمستقبل، أوضح بريجع أن الدور العسكري لروسيا في سوريا سيعتمد بشكل كبير على تطوّر المشهد السياسي للبلاد، خصوصاً في ما يتعلّق بسياسات أي حكومة جديدة تجاه استمرار الوجود العسكري الروسي. كما أن مستقبل سوريا سيظلّ رهناً بالتوترات الإثنية والدينية بين مختلف الطوائف. روسيا تدرك تماماً المخاطر التي قد تنجم عن الانقسامات الطائفية، وتعتبر أن استمرار تدخلها العسكري أمر أساسي لمنع التجزئة والحفاظ على وحدة الأراضي السورية.
روسيا وإرسال خبراء صواريخ إلى إيران
بالنسبة إلى التعاون العسكري مع إيران، تحدّث بريجع عن أن هذا التعاون يعدّ ذا أهمية استراتيجية ويتماشى مع الأهداف الجيوسياسية الأوسع لروسيا في الشرق الأوسط. تؤكد التقارير الأخيرة إرسال روسيا خبراء صواريخ إلى إيران، ما يعكس تعميق التعاون العسكري والتكنولوجي بين البلدين. بالنسبة إلى موسكو، يمثل هذا التعاون خطوة مدروسة لتعزيز شراكاتها الاستراتيجية وإثبات نفوذها في الجغرافيا السياسية الإقليمية. ترى روسيا في إيران حليفاً إقليمياً مهمّاً في مواجهة النفوذ الغربي، وفي إدارة الاستقرار الإقليمي، وتأمين ممرّات الطاقة الاستراتيجية.
تدرك موسكو أهمية موازنة علاقاتها بعناية مع إيران لضمان تعزيز الأمن الإقليمي، من دون التسبّب في مواجهة مفرطة مع القوى الغربية. وتتمثل الأهداف الاستراتيجية لروسيا في تعاونها مع إيران في تعزيز ديناميكيات الأمن الإقليمي المواتية للمصالح الروسية وتعميق التعاون الاقتصادي والطاقة مع طهران.
روسيا ولبنان: مجالات التعاون المحتملة
أمّا بالنسبة إلى لبنان، فقد شدّد بريجع على أن روسيا تعتبر لبنان شريكاً ذا قيمة استراتيجية مع إمكانات كبيرة لتعميق التعاون في مجالات متعدّدة، بما في ذلك الطاقة، الدفاع والاقتصاد. يمثل التعاون في مجال الطاقة، خصوصاً في مشاريع استكشاف النفط والغاز في شرق البحر المتوسط، أولوية لموسكو. كما أن قطاع الطاقة اللبناني يحتوي على إمكانات غير مستغلّة، ما يوفر فرصاً لروسيا للمشاركة في المشاريع المشتركة والاستثمار في البنية التحتية.
عسكرياً، ترى روسيا إمكانية في تزويد لبنان بالمعدّات العسكرية، التدريب، والمساعدة في إصلاح القطاع الأمني والعسكري. وفي المجال الاقتصادي، تهدف روسيا إلى المساهمة بشكل كبير في جهود التعافي اللبناني من خلال الاستثمار في البنية التحتية والتجارة.
الأولويات الرئيسية للسياسة الخارجية الروسية
أكد بريجع أن السياسة الخارجية الروسية لعام 2025 ستستمرّ في التركيز على أولوياتها الاستراتيجية، بما في ذلك تعزيز نظام تعدّد الأقطاب، الحفاظ على الاستقلال الاستراتيجي، مواجهة الهيمنة الغربية، وتعزيز الاستقرار الإقليمي من خلال الشراكات. كما ستواصل روسيا تعميق شراكاتها الاستراتيجية مع القوى الإقليمية الكبرى، مثل دول الخليج وتركيا وإيران، بما ينسجم مع المصالح المشتركة في الأمن، الطاقة، والتعاون الاقتصادي. ستظلّ مكافحة الإرهاب جزءاً أساسياً من السياسة الخارجية الروسية، ما يعكس استراتيجيتها الأمنية التي تهدف إلى استقرار مناطق النزاع وتأمين مصالحها الاستراتيجية.
محادثات جدة والدور السعودي
من جهة أخرى، رأى بريجع أن المحادثات الرفيعة المستوى التي استضافتها جدة أخيراً، سلّطت الضوء على الدور المحوري الذي تضطلع به المملكة العربية السعودية كوسيط دبلوماسي فاعل وقوة مؤثرة على الساحة الدولية، ولا سيّما في واحدة من أكثر الأزمات تعقيداً في عصرنا: الأزمة الأوكرانية. فمِن خلال استضافة هذه المفاوضات الحاسمة، أكدت المملكة استعدادها ليس فقط للمشاركة، بل للقيادة، مستثمرة نفوذها الإقليمي وعلاقاتها الدولية لتعزيز مسارات الحوار وإيجاد حلول بنّاءة.
جاء التدخل السعودي في توقيت بالغ الحساسية، إذ تجاوزت تداعيات الحرب في أوكرانيا النطاق الجغرافي لأوروبا الشرقية، لترخي بظلالها على أسواق الطاقة العالمية والتجارة والتحالفات الأمنية. ومع قرار واشنطن تعليق دعمها العسكري والاستخباراتي لكييف، إثر التوترات الناجمة عن اجتماع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي مع نظيره الأميركي دونالد ترامب، ازدادت أهمية محادثات جدة.
وفي هذا السياق، بادرت الرياض إلى استضافة المسؤولين الأميركيين والأوكرانيين، ما عزّز موقعها كوسيط قادر على احتواء الأزمات قبل تفاقمها.
تحت قيادة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، أثبتت السعودية قدرتها على جمع القوى الكبرى والأطراف المتنازعة، الأمر الذي يعكس مكانتها المتنامية على الصعيد الدبلوماسي. وتؤكد قمة جدة هذا التوجّه، حيث تعكس تحوّل السعودية من لاعب إقليمي مؤثر إلى قوة عالمية لها دور فاعل في تسوية النزاعات. ومن خلال توفير منصة محايدة وذات تأثير، تُمكّن المملكة الأطراف المختلفة من الانخراط في حوار جاد يسهم في إيجاد مسارات للتعاون، أو على الأقل التوصّل إلى وقف لإطلاق النار يُخفف من تداعيات النزاع على المستويات الإنسانية والاقتصادية.
تأتي هذه المبادرة امتداداً لجهود المملكة المتواصلة في المجالات الاقتصادية والاجتماعية وتنويع مصادر الطاقة وتعزيز السلام الإقليمي والدولي، ما يعكس رؤية استراتيجية شاملة. ففي وقت يواجه فيه العديد من الدول تحديات داخلية، تبقى الرياض لاعباً رئيسياً يسعى إلى تحقيق الاستقرار، بما يتجاوز محيطها الجغرافي. ورغم أن الأزمة الأوكرانية تدور رحاها على بُعد آلاف الكيلومترات، فإن انعكاساتها تشمل الجميع، من اضطراب سلاسل التوريد إلى تقلّبات أسعار النفط وإعادة ترتيب الأولويات الدفاعية العالمية. ومن خلال استضافة محادثات جدة، تعزز السعودية دورها في الحدّ من المخاطر الجيوسياسية العالمية.
لقد أسهم الانخراط الشخصي لولي العهد السعودي في تعزيز الصدقية الدبلوماسية للمملكة على الساحة الدولية. فالأمر لا يقتصر على توظيف النفوذ السياسي، بل يعكس التزاماً حقيقياً بتحقيق تغييرات جوهرية في المشهد الدولي. ومن خلال تبني نهج دبلوماسي ديناميكي يتجاوز الأساليب التقليدية، تعيد السعودية رسم صورتها العالمية، متحولة من دولة تعتمد على ثروتها النفطية إلى قوة مؤثرة في مجال الوساطة وصناعة السلام وتقديم المساعدات الإنسانية. ومع تصاعد الحاجة إلى وسطاء موثوقين في ظلّ المشهد الدولي المضطرب، قد يكون النموذج السعودي في إدارة الأزمة الأوكرانية مقدمةً لدور أوسع في تسوية الأزمات الدولية مستقبلاً.
تمثل محادثات جدة أكثر من مجرّد جهد لحلّ الخلافات بين الولايات المتحدة وأوكرانيا أو لوقف موَقت للأعمال العدائية في أوروبا الشرقية، فهي تعكس تحولاً أعمق في طريقة تعامل العالم مع الدور السعودي، إذ تثبت المملكة قدرتها على إدارة مفاوضات قد تغيّر مسار نزاع عالمي، وتعيد رسم التحالفات السياسية على نطاق يتجاوز الشرق الأوسط. وفي حال أسفرت هذه الجهود عن تقدّم ملموس، سواء من خلال تعزيز الالتزامات الأمنية، أو تخفيف حدة التوترات، أو تعزيز التعاون الدولي، فإن السعودية ستكون قد رسّخت موقعها كدولة محورية في المشهد الدبلوماسي الدولي.
إنها لحظة فارقة في العلاقات الدولية، حيث يتابع العالم كيف استطاعت السعودية، كدولة خليجية، أن تجمع إلى طاولة واحدة قادة كانوا على خلاف عميق. وقد تفضي هذه الديناميكية إلى إعادة رسم الخريطة السياسية الدولية وإعادة ترتيب موازين القوى على مستوى أوسع. ومع استمرار المحادثات، يتأكد أن السعودية بقيادة ولي العهد محمد بن سلمان، قد عززت مكانتها ليس فقط كضامن للاستقرار الإقليمي، بل كطرف فاعل في صياغة مستقبل السلام والدبلوماسية على الصعيد العالمي.
جاءت هذه المحادثات استجابة لضرورة مُلحّة أدركتها الأطراف كلّها، بما في ذلك الولايات المتحدة وأوكرانيا، لمنع مزيد من التصعيد وزعزعة الاستقرار. فالنزاع الأوكراني ألقى بظلاله على الاقتصاد العالمي، من اضطراب أسواق الطاقة إلى إعادة تشكيل التحالفات وتفاقم المخاوف الأمنية عبر أوروبا والشرق الأوسط. ومع دخول السعودية على خط الوساطة، وجدت كييف فرصة لإعادة تفعيل قنوات الاتصال واستعادة الدعم الأميركي، الذي يعدّ عنصراً أساسياً في استراتيجيتها الدفاعية وخططها لإعادة الإعمار بعد الحرب. كما أن توقيت هذه المبادرة يتماشى مع الأهداف الاستراتيجية الأوسع للمملكة، حيث يسعى ولي العهد إلى تعزيز دور السعودية كقوة دبلوماسية موثوقة ووسيط عالمي في حل النزاعات.
جوزيان الحاج موسى
https://www.nidaalwatan.com/article/311997-روسيا-لاعب-محوري-في-الشرق-الأوسط
المزيد من القصص
باسيل في العشاء السنوي ل “التيار الوطني
النائب نديم الجميّل في معراب
النائب أشرف ريفي