ضرورة الانتقال من الدّيمقراطيّة التعطيليّة إلى الدّيمقراطيّة الحقيقيّة

وفيه:«كلّ ما لا يتطوّر ينطفئ. ومبدأ قدسيّة الدّساتير وجمودها قد أسقطته التجارب الفاشلة عبر التّاريخ. وممّا لا شكّ فيه أنّ للديمقراطيّة عدّة أشكال وأنواع ومسميّات. تختار الشعوب منها ما يتناسب مع طبيعة كونها في الوجود وحضورها في التاريخ. وفي لبنان على ما ورد في دستور الطّائف، في الباب الثالث منه الذي يشير إلى مجلس الوزراء، وفي المادّة ٦٥ بالتّحديد، والمعدّلة وفقًا للقانون الدستوري ١٨ تاريخ ٢١/٩/١٩٩٠، وفي البند الخامس منها تنصّ على الآتي:
” يجتمع مجلس الوزراء دوريًّا في مقرّ خاصّ ويترأس رئيس الجمهوريّة جلساته عندما يحضر. ويكون النّصاب القانوني لانعقاده أكثريّة ثلثي أعضائه، ويتّخذ قراراته توافقيًّا. فإذا تعذّر ذلك فبالتصويت، ويتّخذ قراراته بأكثريّة الحضور. أمّا المواضيع الأساسيّة فإنّها تحتاج إلى موافقة ثلثي عدد أعضاء الحكومة المحدّد في مرسوم تشكيلها.”
وهذا ما حدّد نوع الديمقراطيّة التي ارتآها المشرّع في اتّفاق الطائف. وهي ما اصطلح على تسميته ب ” الديمقراطيّة التوافقيّة”. وتبرير ذلك لأنّ لبنان بلد تعدّديّ ويجب ألا تغلَّب فيه مجموعة على أخرى؛ فضلاً عن أكذوبتَي الانصهار الوطني والتعايش المشترَك اللتين شنّف الممانعون آذان اللبنانيّين فيهما. وتحت هاتين الذريعتين تمّ إسقاط مفهوم الهويّات المجتمعيّة التي تكوّن مجتمعة “الكِيانيّة اللبنانيّة” . فضلاً عن فشل محاولة جمع المتناقضات الهويّاتيّة.
وبالتّالي تحوّلت هذه الديمقراطيّة التوافقيّة إلى ما اصطلحت على تسميته في كتابات سابقة لي ب ” الديمقراطيّة التعطيليّة. ” حيث يقوم هذا المبدأ في الحكم على تعطيل المؤسّسات من قبل الفريق الذي يملك قدرة “السلبطة” على القرار السياسي باستخدامه سلاحه غير الشرعي. وبالطبع أعني هنا منظمة حزب الله وفريق الممانعة ومَن تحالف معهما إيديولوجيًّا ومصلحيًّا؛ لا سيّما في المرحلة التي امتدّت منذ انقلاب ٧ أيّار وحتّى أيّامنا هذه.
وذلك عملاً بتنفيذ مبدأ مغلوط للديمقراطيّة وهو استبداد الأكثريّة، تحت ذريعة حكم الأغلبيّة ومعارضة الأقليّة. وهذا ما لا يتناسب من الأساس مع التوافق الذي نصّ عليه الدّستور. فالممارسة هي عكس المنصوص عليه دستوريًّا. والواقع هو أيضًا عكس هذه الممارسة، تحت بدعة التعطيل. وهنا أتى الخطر الأكبر على الديمقراطيّة اللبنانيّة من هذه الديمقراطيّة نفسها. حيث تحوّلت إلى استبداد، ولكن هذا الاستبداد لم يقتصر على القدرة السياسيّة التي امتلكتها الأكثريّة، بل ذلك نتج من قوّة خارجة عمّا هو مألوف في طبيعة الدّول؛ أي السلاح غير الشّرعي. وهذا ما مكّن هذه الأكثريّة بعدما أفقدتها الدّيمقراطيّة أكثريّتها على الاستمرار بسلبطتها.
لذلك كلّه، لم يعد مقبولاً من الآن فصاعدًا السير بالمشروع الذي تبنّى هذه المفاهيم المغلوطة للمبدأ الديمقراطي العام. من هنا ضرورة الانتقال إلى الدّيمقراطيّة الحقيقيّة التي تقوم على الليبراليّة الحقيقيّة والتي تثبّت المادّة ١٨ من الشرعة العالميّة لحقوق الإنسان فلسفيًّا؛ وليس من ضمن إطار عمليٍّ وحسب كما تنصّ عليه المادّة التاسعة من الدّستور اللبناني التي تكفل حريّة المعتقد. فالمادّة ١٨ من الشرعة العالميّة التي وضعها اللبناني شارل مالك نصّت على هذا الحقّ الطبيعي والوجودي للإنسان. لكن ما يجب إدراكه أنّ مالك عندما عمل على تثبيتها وجعلها مبدأ أساسيًّا في طريقة عيش الشعوب، إنّما أتى ذلك انطلاقًا من حرصه على حماية المكوّنات العرقيّة والدينيّة والحضاريّة الأصيلة الموجودة تحديدًا في منطقتي الشرق الأوسط والشرق الأدنى، ومن ضمنها وطنه لبنان. لأنّه بالرؤية التي كان يتمتّع بها، أدرك سلفًا الخطر الوجودي الذي يتهدّد هذه الجماعات الحضاريّة؛ لا سيّما وأنّ الأكثريّات التي باتت تسبح في بحرها، لا زالت حتّى الساعة تحارب نظريّة الهويّات المجتمعيّة، وتسعى ليل نهار إلى صهرها تارة في قوميّة عروبيّة وطورًا في دساتير مركزيّة تذيب حرّيّتها المجتمعيّة، وتقمع الحريّة الشخصيّة الكيانيّة للأشخاص الأحرار فيها؛ وذلك باعتمادها على الخونة من هذه المجموعات الحضاريّة، أو على مَن تستطيع هذه الأكثريّات تطويعهم ترغيبًا أو ترهيبًا.
فالديمقراطيّة الحقيقيّة تنطلق إذًا من المبادئ التي استنتجها السياسي ألكسي دو توكفيل بعدما وضع مؤلّفه «الديمقراطية في أمريكا»؛ وناقش فيه مبدأ سيادة الشعب الذي ينصّب ” الكائن العملاق” المتمثّل بالحكومة في السلطة. لكنّه لم يغفل أنّ استبداد الأغلبيّة قد ينقلب إلى استبداد هادئ ينتج عن تلك الحكومة. والخلاصة الأبرز من فكر دو توكفيل أنّ الديمقراطيّة الحقيقيّة هي التي تحفظ حقوق الأقليّات وتحدّ من عمليّتي الاستبداد هاتين.
وهذه الديمقراطيّة لا تنجح إلا مع نظام سياسيّ جديد ينطلق من القاعدة اللامركزيّة. وهذا النظام إن لم يوفّر الحريّة الكيانيّة للمكوّنات الحضاريّة اللبنانيّة، على قاعدة توفير المسافة الآمنة بينها، لتعيش كلّ مجموعة من هذه المجموعات قناعاتها على اختلافها، سيفشل هذا النّظام لو تأمنت له رعايات العالم كلّه. ولنا نماذج في أشكال هذه الأنظمة في مختلف دول العالم التي تبنّت القاعدة الفدراليّة المنبثقة من حقيقة مجتمعاتها؛ وقد أثبتت عبر التجارب نجاح نماذج الحكم فيها، بدءًا ببلجيكا وليس انتهاء بالولايات المتحدة الأميركيّة أو حتّى الإمارات العربيّة المتحدة أو جزر القمر العضو في جامعة الدول العربيّة التي تعتبر من أصغر الدول الاتّحاديّة الفدراليّة حيث تبلغ مساحتها ١٨٦٢ كلم ٢، وعدد سكّانها هو ما دون المليون نسمة. وتعتمد على نظام التعدديّة الحزبيّة ترجمة للتعددية المجتمعيّة، المكوّنة في الأغلب من أصول إفريقيّة عربيّة وأقلية من المواطنين الكاثوليك في “مايوت” الذين تأثروا بقوة بالثقافة الفرنسية. وغيرها من الأقليّات الصينيّة وذات الأصل الفرنسي. مع الاشارة إلى أنّ النظام القانوني فيها يقوم على أساس الشريعة الإسلامية ومجموعة القوانين الموروثة من فرنسا.
من هنا، أهميّة وجود مجتمع مدني داخل هذه الدّولة الاتّحاديّة هو شرط أساسيّ من نجاح نظام الحكم فيها، إضافة إلى التعدديّة الحزبيّة المنبثقة من الواقعيّة المجتمعيّة. مع العلم أنّ كتاب “في الحرية” للفيلسوف الليبرالي الشهير جون ستيوارت ميل” الذي يهدف فيه بالأساس إلى الدفاع عن الفرد ضدّ استبداد الدولة والمجتمع والأكثرية، يقول فيه بوضوح ” إنّ مشكلة الحرية تُطرح بإلحاح داخل الدولة الديمقراطية، فبقدر ما تزداد ديمقراطية الدولة، بقدر ما ينقص ضمان الحرية الفردية.”
فالانقسام المجتمعي الهويّاتي الذي لم يتمكّن الفكر اللبناني من تخطّيه، لن يُعالَجَ إلا وفق تطبيق القواعد الاتّحاديّة، وعدا ذلك كلّه يبقى مجرّد بحث في كيفيّة إخفاء هذه الحقيقة الوجوديّة في جدليّة بيزنطيّة لن تنتهي. ومن لا يقول الحقّ لن يتحرّر إلى دهر الداهرين.»
الكاتب: د.ميشال الشماعي