هل يجرف الطوفان القضيّة الفلسطينيّة؟

لا يمكن مقاربة القضايا الإنسانيّة المحقّة من وجهات نظر بعيدة من البعد الانسانويّ الذي وحده يعطي حقّ الحياة للشخص البشري. فالنظريات الإقتصاديّة الإجتماعيّة التي حاول مفكّرو القرن التاسع عشر تأطير أسسها على حساب الحقوق البشريّة، قد سقطت في التجارب السياسيّة الفاشلة التي طبّقتها الأنظمة الشيوعيّة والشموليّة أو حتّى الثيوقراطيّة في العالم. وما لم يسقط منها اليوم في العام 2023 هو ساقط حتمًا في المستقبل القريب، لأنّ منطق التّاريخ هو لغلبة الحياة على الموت.
ومن هذا المبدأ بالذات، تأتي مقاربة القضيّة الفلسطينيّة لأنّها قضيّة إنسانيّة، قضيّة لا بدّ وأن تنتصر فيها الحياة على الموت، لأنّ منطق الخلق يقوم على ذلك. والخطأ الفادح الذي ارتكبته الدّول العظمى عبر تاريخها في معالجة القضايا الدّوليّة يكمن في المقاربة الخاطئة لحلّ النّزاع بين شعبين موجودَين في أرض واحدة. والخطيئة الكبرى تكمن في الاستمرار بمقاربة هذه القضيّة بالطريقة نفسها، ولكنّ هذه المرّة الأسوأ كان بإدخال البعد الجيو- إقتصادي على مساحة هذه الأرض. وهذا ما عرف بمشروع ” بهارات” الذي استطاعت أن تستفيد من تحويره إسرائيل ليخدم مصالح دولتها العنصريّة – القوميّة.
لكن الاعتبار الذي لا يمكن القفز فوقه هو قدرة المملكة العربيّة السعوديّة الاقليميّة المتنامية التي دخلت في صلب هذه المعادلة العالميّة من دون أن تستبعد القضيّة الفلسطينيّة. حيث بقيت هذه القضية العثرة الوحيدة في الانتقال إلى المراحل التنفيذية لأي احتمال تطبيعي مع اسرائيل. وعلى ما يبدو عند بروز أي مؤشر لهذه العقدة وعند الصراع بين الجبابرة في الإقليم، أي الجمهوريّة الاسلاميّة في إيران والمملكة وإسرائيل، إضافةً إلى الرّغبتين الإيرانيّة والاسرائيليّة باستعادة أمجاد ماضي مملكة داود وأمبراطوريّة فارس قد أدّى إلى الإطاحة بالاعتبار الانساني – الانساني على حساب المصلحتين: الاقتصاديّة والقوميّة؛ وهذا بدوره ما أدى إلى الاطاحة بهذه الرّؤوى كلّها لتعود إيران عبر حماس وتقول: الأمر لي.
وهذه برأينا من أفظع الأخطاء الاستراتيجيّة التي ارتكبتها الدّول العظمى. لذلك، لن يعيش أيّ مشروع اقتصاديًّا كان، أم قوميًّا أم حتّى مجرّد كونه مشروعًا اجتماعيًّا بسيطًا على حساب قضيّة إنسانيّة بحجم القضيّة الفلسطينيّة. ولا سيّما أنّ أحلام التوسّع والسيطرة الإقليميّة، لازالت في أيّامنا هذه، أحد أهمّ أهداف الدول الطامحة إلى لعب أدوار بارزة في الميدان الدولي، ولا سيّما الجمهورية الاسلامية في إيران. ومهما حاولت الدول الكبرى تجاوز المصلحة الإنسانيّة لتحقّق المصالح التي أشرنا إليها آنفًا، فمحاولاتها كلّها لن يكتَب لها النّجاح. حيث لا يمكن إسكات الشعوب عن حقّها في تقرير مصيرها. بغضّ النظر عن إمكانيّة إسكات بعض الأنظمة أو القادة أو الحكّام، ولنا أمثلة عديدة في التاريخ القديم والمعاصر؛ لكنّ الشعوب لا بدّ لها وأن تنتفض يومًا ما لكرامتها.
ولعلّ هذه المسألة هي الجوهر الذي طبع القضيّة الفلسطينيّة. حيث لم يتمكن حتى اليوم المجتمع الدولي من نزع هذا الحقّ لأنّ موجود في العمق الإنساني لكل شخص بشري يؤمن بثالوث الحرّيّة والأرض والإنسان. قد تخسر حماس عسكريًّا في الميدان، لأنّها قد لا تتمكّن من مواجهة جيوش العالم التي تضامنت مع إسرائيل، لكنّها حتمًا دخلت التاريخ. ولن يقبل الغرب إلا بإخراجها من الجغرافيا. وذلك لأنّ القضيّة بالنسبة إلى إسرائيل والغرب هي قضيّة وجود من عدمه؛ بينما القضيّة بالنسبة إلى الفلسطينيّين فهي صراع على الوجود في العدم. لذلك، هم منتصرون مهما عظمت خسائرهم الماديّة أو الانسانيّة.
أمّا العقل الغربي فلا يعير البعد الانساني في هذه القضيّة أيّ اعتبار، بل جُلَّ ما يصبو إليه هو تسيير مصالحه الماركنتيليّة النفعيّة، ولو على حساب الاعتبار الانساني بالذات. لذلك، باعتقادنا لقد انجلت هذه الرؤية، وبلورتها قد تكون في استعادة زمن ما قبل حماس في غزّة، وما قبل ال ١٧.١ في جنوب لبنان- وليس ضروريًّا أن يترجم ذلك باحتلال للأرض- على قاعدة محو أي قواعد للاشتباك، لأنّ ذلك لن يكون مدرَجًا للرّؤوى المستقبليّة التي تمّ رسمها في ال G 20.
ويبدو أنّ منسوب الإنتحار الاقليمي سيكون مرتبطًا بارتفاع وتيرة الأحداث اليوميّة، التي حتى الساعة صارت أكثر من مناوشات خارج جبهة غزّة، وأقلّ من حرب. ولا مصلحة لمَن هم خارج غزّة بالتورط بشكل انتحاري في مجريات الأحداث، لكن بعد إطلاق نظرية وحدة الساحات لا يمكن استثناء ذلك. وعندها سيكون التفاوض والبناء الجديد على أنقاض أوطان المحور المحروقة. وما تمّ رفضه من احتمالات كان بإمكانها ان تحيي مبدأ وجود الدولتين، سيتمّ القبول به في نهاية المطاف مع يمين متطرّف، وأرض محروقة، وعدّاد ضحايا لن يعرَف توقيت توقيفه.
أمّا في حال نجح ضابط الإيقاع الأميركي عبر حاملات طائراته وأسلحته النوعيّة بحصر المعارك في الحدود الغزّاويّة فقط، فهذا يعني حتمًا أنّ مصير حماس سيكون كمصير منظمة التحرير في لبنان. وفي حال ثبتت حماس في غزّة، ونجح الردع الأميركي بإدارة المعركة بين طرفي الصراع فقط فهذا يعني حتمًا سقوط المشروع الذي يناهض إيران لأنّ أميركا بعثت رسالتها بوضوح الى الايراني. ويبدو أنّ الوجود العسكري الغربي المتمثل بالحشود الأميركية إلى دوره الرّدعي، هو يقدّم ورقة تفاوضيّة قويّة لصالح الاسرائيلي في عملية إخضاع ديبلوماسي، قد يكون من المبكر إثارتها بحسب التداعيات التي ستستتبع الأحداث اليوميّة؛ ولا سيّما مع توارد أنباء من أكثر من مصدر عن اقتراب موعد العمليّة البرّيّة.
أمام ذلك كلّه، وبرغم شرعيّة حركة المقاومة أمام ظلم أي محتلّ واغتصابه الأرض، خشيتنا الكبرى تكمن من قدرة الإعلام العدواني من “تدعيش” صورتها في الغرب، وتحويلها من مظلوم إلى ظالم؛ والخوف الأكبر أن يكون ذلك كلّه، تواؤمًا مع المصالح الجيو- إقتصاديّة التي تسعى إليها الدول الكبرى، قد أسقط أحقّيّة القضيّة الفلسطينيّة. وحذارِ أن يسقِط ذلكَ أيضًا الوطن العربي برمّته في أتّون تحترق فيه الكرامة الإنسانيّة بزيت وكبريت المصالح الاقتصاديّة الكبرى !
د. ميشال الشماعي