برغم ما نمرّ به راهنًا، على المستويات كافّةً، يبقى أملنا باستمرار الحياة كبيرًا، لأنّنا أبناء القيامة، ولأنّ لنا تاريخًا من الشهادة؛ لم تتمكّن سنون العمالة والتزلّم للاحتلالات التي تعاقبت منذ ما قبل العثماني، ومرورًا بالفرنسي والاسرائيلي والفلسطيني والسوري وصولاً حتى الايراني؛ هذه العمالة لهذه الاحتلالات كلّها، لم تستطع محو تاريخنا المشرّف.
وها أيلول المبلول طرفُه بالشهادة للحقيقة مع استشهاد الرئيس المؤسس، فخامة الشيخ بشير الجميل في الرابع عشر منه، وقافلة من الرفاق شهداء المقاومة اللبنانية، وشهداء القوّات اللبنانيّة، يعود هذا العام ككلّ عام، ولكن مع مزيد من الاصرار على مواجهة المحتل الايراني الذي نجح باحتلال السيادة اللبنانية بوساطة منظمة حزب الله وعملائها؛ بدءًا بأولئك الذين وقّعوا لها على صكّ براءة احتلال هذه السيادة في السادس من شباط من العام ٢٠٠٦، وليس انتهاءً بكلّ الذين وضعوا يدهم بيدها، تحت ذريعة الحفاظ على البلد، حتّى طار البلد كلّه في نهاية المطاف.
نحتفل هذا العام بذكرى شهدائنا لتبقى لنا الحرّيّة التي لا حياة لنا في هذه الأرض من دونها. نصلّي لهم، لأنّه إن لم نذكرهم، عندها نكون قد ارتكبنا الخطيئة المميتة بحقّ تاريخ وجوديّتنا كلّه. هم ذُخرُنَا وذَخيرتُنَا في هذا الوطن الذي لم يترك فيه دويتّو المنظومة والمنظّمة شيئًا إلا واستباحه. وحدها دماؤهم بقيت طاهرة. لم يستطع هؤلاء تدنيسها لأن لها حرّاسًا لا ينعسون، ساهرون ومصابيحهم مشتعلة. يمسكون مسبحتهم بيسراهم وبندقيّتهم باليمنى. في هذه الأرض “باقيين” لأنّ الأرز الذي أنبته ربّ القوّات فيها ما زال أخضر. فهؤلاء الرابضين في العلياء قد سقوه دماءهم الذكيّة. لذلك سيبقى أخضرَ.
ولتبقى لنا الحرّيّة لا يمكن إلا وأن نكون على قدر طموحاتهم. تلك التي أفنوا ذواتهم لأجل تحقيقها، في وطنٍ سيّدٍ وحرٍّ ومستقلٍّ. حمّلونا أمانة استشهادهم. نذود عنها حتى لو اضطرّتنا غدرات الزمان إلى الرحيل عن أرض لبنان للحفاظ على حرّيّتنا الشخصيّة الكِيَانِيَّةِ. فلنا انتشار في كلّ صقعٍ من أصقاع هذه الأرض. بنينا فيه لبنان أنّى شئنا، وهو يشبه طموحات رفاقنا الشهداء لتبقى لنا الحرّيّة. ومع انتشارنا هذا نخوض مقاومة الصمود لتبقى لنا هذه الحرّيّة بالذات.
والأهمّ الذي نعيشه اليوم على عبقِ بخور استشهاد رفاقنا هو أنّنا نعاصر قائدًا حكيمًا اختار المواجهة سبيلاً طوال ٤١١٤ يومًا من زنزانته طوعًا. ولم يؤثر الهرب تحت مُسميات النفي في قصور باريسيّة لتبقى له ولنا تلك الحرّيّة؛ بل بقي حرًّا لأنّه حافظ على أمانة استشهادهم حتى حرّر الوطن وحرّرنا معه. نواكبه اليوم، نصلّي معه، نجوع معه، نعطش معه، يحزن معنا، ويفرح معنا. لتبقى لنا الحرّيّة. لذلك كلّه، ستبقى لنا هذه الحرّيّة التي نعشقها أنّى كنّا.
قدّاسنا هذه السنّة يتميّز أكثر من أيّ عام لأنّه يعيد إلينا هذا الأمل والرّجاء ببقاء وطننا وطن الحرّيّة. لا نُغالي إن قلنا لبنان باقٍ وطنًا للحرّيّة لأنّ الأحرار الذين يؤمنون فيها لا زالوا على عهدهم لآلاف الشهداء الذين سبقونا هُمُ لنبقى نحنُ. مميّزٌ أكثر هذا العام لأنّ المواجهة باتت بين الحقّ والباطل على وجوديّة هذا الحقّ. ولتبقى لنا الحرّيّة نحن مستمرّون في هذه المواجهة حتّى المنتَهَى، أنّى كنّا. لأنّه إنِ انتَصًرً الباطلُ هذه المرّة لن نكون أحرارًا حتّى لو تركنا لبنان. فالحرّيّة في نهاية المطاف شعورٌ يرتبط بالزَّمَان بأبعاده الثلاثة: الماضي والحاضر والمستقبَل. وذلك إضافةً إلى ارتباطه بالبعد المكاني الذي يحمل أبعادًا ثلاثةً أيضًا وهي: الطول والعرض والارتفاع، يضافُ إليها الزمان بُعدًا رابعًا.
نحن نرتبط ببعدٍ خامسٍ يميّزُنا عن غيرنا من اللبنانيّين، وهذا البعد بدوره لا يرتبط لا بالزّمان ولا حتّى بالمكان بقدر ما يرتبط بتاريخ الوجود وهو بُعدُ الشهادة. ونعني هنا الشهادة للحقيقة بالتحديد. وهذا البعد مرتبط بسبب بقاء الحرّيّة لنا بالذات. إن لم نشهد له لا قيمة لوجودنا. هذا الوجود الذي لا يرتبط بالمكان وأبعاده، نقف هذه السنة عنده، ونصغي لإملاءاته ومتوجّبات الصمود التي يفرضها علينا، نحفظها ونحافظ عليها بدمائنا، والأهم أنّنا نشهد لها لنبقى ونستمرّ أحرارًا أينما كنّا وفي أيّ بعد من أبعاد المكان، نرتبط فقط بهذا البعد الخامس، لأنّنا ظَهُوريّون نؤمن بحقيقة هذا الوجود الذي لا قيمة له من دون الحرّيّة فيه.
لذلك كلّه، نحن صابرون حتّى المُنتَهَى، وكلّنا يقينٌ أنّ الخلاصَ نصيبُنا. لأنّنا حافظنا على إرثِ شهدائنا. فهم الكنز الوحيد الذي لا يمكن انتزاعه منّا، حتّى لو اجتمع طواغيت العالم كلّه علينا؛ فرفاقنا اليوم باتوا أجواقًا من الكاروبيم، مليؤون بالمعرفَة، وبعيدون عن المجد الباطل. هم اليوم السيرافيم الذين استحالت أرواحهم الطاهرة إلى شرفاء أطهار أنقياء، يخدمون عرش الرّبّ في عليائهم. نطلب شفعاتهم، ليكونوا لنا كما دائمًا، الذّخيرةَ في صحرائنا التي تقينا من خبث الأشرار، وتحمينا من حقدهم، وتشكّل السبب الأوّل لمقوّمات صمودنا لتبقى لنا هذه الحرّيّة… ونبقى حيث لم يجرؤ آخرون على البقاء. فيبقى لبنان.
د. ميشال الشمّاعي
المزيد من القصص
بيار بو عاصي في ذكرى 14 آذار
في الذكرى العشرين لـ 14 آذار
هذا الإنجاز الطبي المذهل يمثل خطوة ثورية في عالم زراعة الأعضاء وعلاج أمراض القلب الحادة