مواصفات الجمهوريّة

عمليًّا دخلنا في الشهر العاشر من الشّغور النّاتج من تعطيل فريق إيران في لبنان، أو من يسمّون أنفسهم بالممانعة تيمّنًا بالامتناع عن التعاطي مع العدوّ الاسرائيلي فيما أجهدوا أنفسهم منذ العام ٢٠٠٦ وحتّى ٢٧ تشرين الأوّل ٢٠٢٢، تاريخ توقيع اتّفاق السلام الصامت معه في النّاقورة قبل أن يودّع الرئيس السابق ميشال عون قصر بعبدا. وأمام هذا الواقع المحكوم بثنائيّة الشغور وتصريف الأعمال التي على ما يبدو ستطال معظم المراكز الرئاسيّة في ما تبقى من هيكل الدّولة اللبنانيّة، ألم يئن الأوان لبحث مواصفات أيّ جمهوريّة نريد، وليس مواصفات أيّ رئيس نريد؟

إنّ الممانعين وفي طليعتهم منظمة حزب الله لا يتحدّثون عن مواصفات الجمهوريّة. لأنّه بعدما وضع اللبنة الأولى في اتّفاق ٦ شباط ٢٠٠٦ مع مَن أمّن لمشروعه الثورويّ الغطاء المؤسّساتي، نجح بالسيطرة التامّة، بعد اتّفاق الدوحة في العام ٢٠٠٨ على مفاتيح الحكم؛ وتتوّجت سيطرته بوصول حليفه رئيس التيار السابق ميشال عون إلى موقع رئاسة الجمهوريّة. وتثبّتت أكثر بعدما أعلن سليماني السيطرة على بيروت بعد انتخابات العام ٢٠١٨. فهم يتحدّثون عن مواصفات رئيس يحمي ظهرهم فقط لا غير. ولا يهمّ إن كان يحمل أيّ مشروع لا يرتبط بلبنانيّة الجمهوريّة.

أمّا اليوم، فكلّ حديث من قبل السياديّين عن مواصفات للرئيس لم يعد مقبولاً لأنّه لن يؤتي بأيّ نتيجة. فالمبدأ السيادي مغيّب؛ وهذا عطب لا يمكن القفز فوقه. وسبق أن أشرنا لذلك في أكثر من مقال. لذلك المطلوب اليوم الحديث عن مواصفات الجمهوريّة التي يريد أن يعيش فيها اللبنانيّون لمئات من السنين من دون أن تتعرّض لاضطرابات تدمّر. والحديث عن مواصفات الجمهوريّة لا يعني المؤتمر التأسيسي الذي تبثّ منظمة حزب الله هذا النمط من الحديث في الأوساط الفكريّة والاعلاميّة عنه حتّى بات حديث اللبنانيين أجمعين. فيما على ما يبدو أنّ مشروع هذه المنظمة في غير موضع.

من هذا المنطلق، يجب إعلان موت هذه الجمهوريّة لأنّ المواصفات التي بنيت على أساسها لم تحقَّق. لذلك مفروض على اللبنانيّين جميعهم البحث عن مواصفات الجمهوريّة التي يريدونها. ولكن لا يمكن أن تكون هذه المواصفات من غير المنطَلَقَات التي أرستها الجمهوريّة الثانية وأوّلها وقف العداد الديمغرافي والحفاظ على المناصفة المسيحية – الاسلاميّة. وهذه قاعدة حضاريّة وليست دينيّة مذهبيّة. وهذا ما يجب الانتباه إليه والتمييز بين المبدأ الحضاري وبين الطرح الذي تقوده منظمة حزب الله من بوابة الميثاقيّة الشيعية السنية، والمسيحيّة مجتمعة.

هذه الأعراف الكيانيّة التي يجب إسقاطها في البحث عن مواصفات الجمهوريّة التي يريدها اللبنانيّون وطنًا على القاعدة التأسيسيّة. هذه الجمهوريّة التي ثبّتها قداسة البابا يوحنّا بولس الثاني في نظريّته ” لبنان الرّسالة” التي أطلقها في العام ١٩٩٧ ليدحض بوساطتها نظريّة الوطن العنصري التي أرسى قواعدها الوجوديّة الفيلسوف اليهودي صموئيل هنتغتون في كتابه “صراع الحضارات”، ليثبّت نظريّة بناء الوطن العنصري. هذا الوطن الذي لا يشبه لبنان التعدّدي المبني على قاعدة الوحدة في التنوّع والتنوّع في الوحدة.

لذلك كلّه، لا يمكن الاستمرار بمواصفات هذه الجمهوريّة المركزيّة التي أسقطتها تجارب التّاريخ. فالمطلوب اليوم الذهاب إلى جمهوريّة لامركزيّة انتقاليّة ليُصار بعدها إلى تكريس مبدأ المسافة الآمنة بين مكوّنات هذا الوطن الحضاريّة. وهذا لن يتمّ إلا متى تمّ الاتّحاد بين المكوّنات السياديّة، لإيصال رئيس جمهوريّة يسيّل نتائج انتخابات ٢٠٢٢. هذه الانتخابات التي أسقطت مشروع سليماني الذي تفاخر بسيطرة ثورته على العاصمة الرابعة بعد نتائج انتخابات ٢٠١٨.

من هذه المنطلقات، ما يجب إدراكه أنّ مشروع الثورة الاسلاميّة في لبنان قد سقط على أعتاب المصالح الاقليميّة والدّوليّة بعد اتّفاق السلام الصامت والاتّفاق السعودي- الايراني ونتائج انتخابات ٢٠٢٢. لذلك كلّه، يجب استثمار هذا السقوط المدوّي لهذا المشروع الذي سيسقط عاجلاً أم آجلاً في منطَلَقِهِ الجيوسياسي، بمواصفات جمهوريّة تبدأ باللامركزيّة الموسّعة. ولا يخافنَّ أحد بعد اليوم من المطالبة بما هو اكثر من ذلك، سواء أكان نظامًا فدراليًّا أو حتّى كونفدراليًّا؛ أو الذهاب إلى النموذج القبرصي. لأن لا عاقل قد يقبل باستمرار الوضع على ما هو عليه في لبنان.

زمن التنظير انتهى. أيّ مواصفات رئيس من دون مواصفات للجمهوريّة التي سيكون رئيسها، هو مشروع تمديد للأزمات التي يعاني منها الشعب اللبناني مجتمعًا. إن لم نتمكّن من حلّ معضلة الانتماء الكِياني فعبثًا نبني أيّ جمهوريّة. أمام هذا الواقع لا حلّ سوى في الذهاب إلى نموذج كونفدرالي أو قبرصي. أو إذا تمكّن اللبنانيّون من إيصال الرّئيس السيادي الذي سيحمل مواصفات الجمهوريّة، عندها فقط يستطيع لبنان أن يحيا بصورته الجديدة لمئات ومئات من السنين بسلام داخلي.

آن الأوان اليوم وليس غدًا للبحث في مواصفات الجمهوريّة قبل البحث في مواصفات الرئيس. فلا رئيس يستطيع أن يحكم جمهوريّة ليست بجمهوريّة حقيقيّة. والحلّ يجب أن يبدأ من هويّة الرئيس الذي يريد هذه المواصفات للجمهوريّة التي سيحكمها. وعلى ما يبدو أنّ الأمور تتّجه إلى المزيد من توأمة للشغور مع تصريف الأعمال بانتظار متغيِّرٍ إقليميٍّ ما. لكن الشاطر هو الذي يخلّص نفسه؛ والعبقريّ هو الذي يتعلّم من أخطاء غيره. إن لم نكن عباقرة لن نتمكّن من إنقاذ لبنان واستعادة الجمهوريّة.

د. ميشال الشمّاعي.