هذه الأرض أرضنا والقرار لنا

لا يعتقدنَّ أحد أنّ مَن يعتنق الحرّيّة مبدأ في  حياته  كلّها قد يتنازل يومًا عن حقّه في بناء وطن سيّد وحرّ ومستقلٍّ. ولأنّ المبدأ السيادي  هو الأصل في بناء الأوطان، لا يمكن التنازل عنه. ولا سيّما إذا كانت نيّة أيّ فريق سياسي هي بناء الدّولة والجمهوريّة القويّة. من هذا المنطلق بالذات دخلنا العمل  الوطني ونتعاطى الشأن العام. ولم نألً أيّ جهد، أو تضحية في سبيل الوصول إلى الوطن الذي حلمَ به فخامة الرئيس الشهيد الشيخ بشير الجميّل. وهذا الوطن نفسه هو الذي دفع سمير جعجع من عمره 4114 يومًا في الاعتقال ليبقى حرًّا، وبقي.

وما يلفت في قراءة بسيطة لتاريخ هذا الوطن وللمآسي التي تعرّض إليها شعبه، وبالتحديد المسيحيّين فيه، وعلى وجه الخصوص موارنته، أنّهم ما زالوا حتّى هذه الساعة الرّقم الصعب فيه، لا بل هم بذاتهم الشمس التي تتكوكب حولها الكواكب الوطنيّة على اختلاف ألوانها. هذا الكلام ليس من أيّ منطَلَقَاتٍ رفضيّةٍ للآخر، أو انعزاليّة كما كان يحلو لبعضهم تسميتها في فترة الحرب الأهليّة؛ بل إنّ منطَلَقَ هذا الكلام هو من الفكر الذي عمل ويعمَل على تثبيت المؤسّساتيّة لدحض الزبائنيّة والاستزلام والمحاصصة بهدف بناء الدّولة.

فهذه أرضنا ولن نتنازل عنها ولو لشبر واحدٍ. لسنا ممّن يبيعون الغاز في البحر كما يشترون السمك قبل اصطياده بهدف المحافظة على وجودنا؛ لأنّ وجودنا في هذه الأرض هو من عمر التّاريخ. ومَن لا يدرك هذه الحقيقة إمّا لا يعرف القراءة أو لا يريد ذلك. لكن هذا لن يلغي الحقيقة الوجوديّة للوطن اللبناني الذي ثبّتناه في إعلان الأوّل من أيلول 1920، وطنًا لمَن يؤمن بهذه الكِيَانيّة اللبنانيّة التي تتّسع لمَن يقبل التعدّديّة والتنوّع بهدف التكامل والإبداع.

ولمَن يحمل المشاريع الإيديولوجيّة التي تُخرِج مَن يؤمن بهذه الكيانيّة لحساب الفئويّة – المذهبيّة على القاعدة العنصريّة أجندات خارجيّة لن يستطيع تنفيذها في لبنان حتّى لو باع  نفسه للشيطان الأكبر، كما يقولون هم في أدبيّاتهم السياسيّة. ولن تستطيع منظمة حزب الله وشركاؤها أن تفرض مشاريعها الاستيطانيّة في أدلجة الفكر اللبناني لا بسلاح الديموغرافيا ولا بسلاح التيئيس. فبنهاية المطاف هذا ما سيرتدّ عليهم سلبًا لأنّ الجوع لا يستثني أحد. فما نفع الأعداد إم لم نستطع تأمين لها القوت اليومي!

وأي اجتماع يحدث في العالم لدعم القضيّة اللبنانيّة مرحَّب به. وملفت قدر الاهتمام، دوليًّا وإقليميًّا بقضيّة هذا الوطن بينما المفترَض أن يشكّلوا المساحة المشترَكَة لتحقيق المصلحة العامّة، يتلطّون تحت مظلّة الحوار المزعوم بهدف تغطية السموات بالقبوات. ويحاول هذا الفريق السياسي بالذات تغيير القناعات الوطنيّة عبر فرض أعراف من خارج الدّستور، كما نجح بالأمس القريب بفرض غيرها.  لكنّ ما كان صالحًا بالماضي القريب لم يعد كذلك اليوم.

وملفتة مقدّمة بيان اللجنة الخماسيّة أمس في الدّوحة التي أشارت بوضوح إلى الآتي:

–              الحاجة الملحة للقيادة اللبنانية للتعجيل في إجراء الانتخابات الرئاسية.

–              تنفيذ إصلاحات اقتصادية ضرورية من أجل الوفاء بمسؤولياتها تجاه مواطنيها.

–              الالتزام بسيادة لبنان واستقلاله.

–              إلتزام أعضاء البرلمان اللبناني بمسؤوليتهم الدستورية، وأن يشرعوا في انتخاب رئيس للبلاد.

–              اتخاذ إجراءات ضد أولئك الذين يعرقلون إحراز التقدم في موضوع انتخاب الرئيس.

–              الحاجة الماسة إلى الإصلاح القضائي وتطبيق سيادة القانون.

–              أهمية تنفيذ الحكومة اللبنانية لقرارات مجلس الأمن الدولي والاتفاقيات والقرارات الدولية الأخرى ذات الصلة.

موازين القوى تبدّلت. وأيّ أعراف ينجح هذا الفريق بفرضها يعني ذلك حتمًا الاستمرار بالدوّامة نفسها، وعندها لن يتغيّر  أيّ شيء كائن مَن كان الرّئيس المقبل أو السلطة التي قد يشكّلها. ولقد أبدت هذه الدّول استعدادها “للعمل مع لبنان لدعم تنفيذ هذه الإجراءات الإصلاحية التي لا مفر منها لتحقيق ازدهار البلاد واستقرارها وأمنها في المستقبل.” لذلك، هي اليوم مدعوّة لمساعدة مَن يريدون اتّخاذ القرار اللبناني وتحمّل مسؤوليّتهم تجاه الشعب والجيش والدّولة. وذلك عملاً بمبدأ اقتران القول  بالفعل.

وعلى ما يبدو أنّ الصلابة التي يبديها الفريق السيادي في لبنان، والتي تبلورت بكوكبة المعارضة حول الخيار الذي أطلقه تكتّل الجمهوريّة القويّة في جلسة 14 حزيران الماضي هي التي دفعت هذه الدّول إلى تثبيت مشروع الفريق السيادي. وهي لم تسر بالمشروع الذي تتبنّاه منظمة حزب الله بزعمها أنها الراعية والحريصة على ثقافة الحوار. واللبنانيّون كلّهم يعلمون كيف ثبّتت هي عينها مبدأ الحوار، فيما خاضته بمشروعها لتصفية المقاومة الوطنيّة ضدّ الاحتلال الاسرائيلي في ثمانينيّات القرن المنصرم.

في المحصّلة، هذه الأرض أرضنا يعني أرض المؤمنين بالكيانيّة اللبنانيّة فقط؛ ومَن خرج طوعًا الخروج من هذه الكِيَانيّة فليذهب إلى حيث قرّر الانتماء هو نفسه. قناعتنا وإيماننا بوطننا لا تسمح لنا برفض مَن يقرّر الانتماء إلى كِيانيّته، لكن أن يأتينا في آخر هذا الزمن مَن يريد أن يؤدلج كِيانيّتنا على حساب قناعاته الإيديولوجيّة فهذا أمر مُحالٌ، ولن يكون له ما يريد طالما بقي فينا نبض لبنانيّ واحد. والقرار لنا اليوم، كما كان بالأمس وسيبقى غدًا مع كلّ مؤمن ومخلصٍ لهذه الكِيانيّة.

د. ميشال الشمّاعي