الـ١٥٥٩ قبل أن تصبح الشاحنة بوسطة

تتابع الأحداث الأمنية بهذا الشكل الدراماتيكي لا ينبئ بالاستمرار على الاستقرار ولا حتّى بالاستقرار على الاستمرار، بل عكس ذلك تمامًا. فعلى ما يبدو ممّا يحدث إقليميًّا ودوليًّا، زد على ذلك محلّيًّا، الأمور تتّجه أكثر فأكثر نحو الحسم. ويبدو أيضًا أنّ ساعة الحقيقة قد دقّت. يبقى أن نترقّب الزّمان والمكان المناسبين وفاقًا للأجندات مجتمعةً. فهل يستطيع لبنان الصمود أكثر حتّى تجلّي ساعة الحقيقة؟ وما نفع الحلول الجزئيّة في ظلّ التفلّت السيادي المستشري على طول ال١٠٤٥٢ كلم٢ من عين إبل إلى الكحّالة فشويّا وخلدة وقبرشمون وعين الرّمانة وقمة الشهداء في بشري حتّى بيروت العاصمة العاصية؟
لقد تركت الأحداث الأخيرة في نفوس اللبنانيّين اشمئزازًا من التفلّت الذي تعاني منه الدّولة ككلّ. فالأمن اللبناني بخدمة منظّمة حزبلا حصرًا. وكلّ مَن يتحالَف معها يصبح فوق القانون، ولا قضاء يجرؤ على محاسبته. إضافةً إلى النعيم الذي يُغدَقُ عليه من جنّات الحكم التي قد يتمتّع بها بفضل إمضائه “شيكًا على بياض” لهذا المحور. فحادثتا عين إبل والكحّالة فتحتا من جديد الملفّ السيادي على مصراعيه. إذ لم تعد تنفع المناصب سواء أكانت رئاسيّة أم وزاريّة أم نيابيّة في ظلّ احتلال السيادة.
وهذا ما يجب تمييزه في لبنان اليوم عندما نتحدّث عن وجود احتلال إيراني. فهذا الاحتلال ليس جغرافيًّا أو ميدانيًّا للأرض اللبنانيّة، بقدر ما هو احتلال للسيادة اللبنانيّة. قد يكون هذا مصطلح مستجدّ يُضاف إلى قاموس المصطلحات السياسيّة التي نجح بفرضها هذا المحور. وهذا الاحتلال كغيره بحاجة إلى مقاومة لبنانيّة للتحرّر منه. والاختلاف هنا ليس حول فكرة المقاومة الاستراتيجيّة، بل حول طبيعتها التكتيّة التنفيذيّة.
أمام الاعتداءات المتكرّرة بالسلاح التي تمارسها منظّمة حزبلا ترتفع الأصوات المطالبة بالتسلّح لمواجهتها على قاعدة أنّ السلاح لا يواجَه إلا بالمثل. فيما تبقى بعض الأصوات العاقلة التي تتمسّك أكثر بالدّولة، وتطالبها بالقيام بواجباتها المؤسّساتيّة، إن من حيث التحقيقات الأمنيّة، وإن من حيث الأحكام القضائيّة المنصِفَة. لكن يبدو أنّ هذا النوع من الاحتلالات لا تنفع معه المقاومة العسكريّة لأنّه يحيا كلّما شرب دماء، ولا المقاومة الدّستوريّة التي يخوضها السياديّون لأنّه لا يقرأ دستورًا سوى دستور الفقيه الذي يدين له وحده بالولاء. وإلا قد تتحوّل شاحنة الكحّالة أو غيرها إلى بوسطة عين الرّمانة في أيّ لحظة، لأنّ النّاس قد ضاقت ذرعًا ولم يعد بالإمكان استيعاب غضبها في كلّ سقطة.
لذلك كلّه، نحن بأمسّ الحاجة اليوم إلى مقاومة سياديّة تقاومه بالموضوع السيادي حصرًا، وهذا إن نجح به السياديّون عندها فقط ينجحون بإسقاط الأوراق التي ما زالت حتّى الساعة منظّمة حزبلا تحارب بوساطتها. ولن يتحقّق ذلك إلا بتنفيذ كامل للقرار ١٥٥٩؛ وكي لا نغالي بتوجيه السهام فقط على منظّمة حزب الله التي تتباها بسلاحها غير الشرعي، وإن شرّعته لها سلطتها السياسيّة في البيانات الحكوميّة؛ والأكثر تتباها بتخزينه ونقله بين المدنيّين الآمنين الهانئين بعيشهم الكريم، ولو بحدّه الأدنى مع دويتّو المنظومة والمنظّمة. هذا القرار يجب أن يشمل أيضًا كلّ سلاح غير شرعي بما فيه سلاح المخيّمات الفلسطينيّة، وكلّ المربّعات الأمنيّة، وعصابات تجّار الممنوعات والمهرّبين الحدوديّين وغيرهم.
أمّا آليّة تنفيذ هذا القرار فيجب أن تنطلق من العرين اللبناني السيادي لأنّه المعني الأوّل بهذا القرار الذي إن تحقّقت بنوده السبعة، ستعود بالخير على لبنان كلّه. ففي البند الأوّل منه أكّد على ” الاحترام التام لسيادة لبنان”، وفي الثالث دعا إلى ” حلّ جميع الميليشيات اللبنانيّة ونزع سلاحها”، والرابع أيّد ” بسط سيطرة حكومة لبنان على جميع الأراضي اللبنانيّة”، والخامس أيّد ” عمليّة انتخابيّة حرّة ونزيهة في الانتخابات الرئاسيّة المقبلة تجري وفقًا لقواعد الدّستور اللبناني الموضوعة من غير تدخّل أو نفوذ أجنبيٍّ”. مع التذكير بأنّ هذا القرار صدر في الثاني من أيلول في العام ٢٠٤ في الجلسة ٥٠٢٨ لمجلس الأمن في الأمم المتّحدة، بعد مطالبات من السياديّين بدءًا بنداء المطارنة في ٢٠ أيلول من العام ٢٠٠٠ ولقاء قرنة شهوان.
ولن يتحقّق شيء من ذلك طالما بقي التصويب الاستراتيجي باتّجاه استعادة السلطة بقدرتها عينها. فلقد تمّ تجربة الانتخابات النيابيّة، وحصد السياديّون النتيجة التي فاقمت الأوضاع سوءًا، والانتخابات الرئاسيّة لن تكون أفضل حالاً لأنّها ستفضي إلى تشكيل سلطة ستخضع بالحدّ الأدنى للأمر الواقع الذي قد يبقى على ما هو عليه، إن لم يواجَه استراتيجيًّا بالطريقة الصحيحة. مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ التداعيات الإقليميّة راهنًا لا تصبّ في مصلحة محور إيران، بدءًا بسقوط اتّفاق بكين، وإقفال المعابر بين سوريا والعراق، وعدم السير باستعادة العلاقات مع نظام بشّار.
المطلوب اليوم التقاطع السيادي مع المصلحة الاقليميّة القادمة على المنطقة للتوصّل عبر مطالبة واضحة من المعارضة اللبنانيّة التي انبثقت من تقاطع انتخابيٍّ محلّيٍّ بتنفيذ القرار ١٥٥٩ بالكامل، وتحت أيّ بندٍ كان شرط أن يتمّ التحرير السيادي، ليستطيع أيّ رئيس للجمهوريّة أن يحكم بقدرة جمهوريّته وسلاحها الشرعي، لا بقدرة خضوعه لمنظمة حزبلا ومحورها وسلاحها غير الشرعي. وذلك يتمّ بثورة سياديّة، بالتعاون مع الانتشار اللبناني في عواصم القرار، عبر وفود معارِضَة تتشكَّل حصرًا لهذه الغاية، لا للمطالبة بالمساعدات من المنظمات غير الحكوميّة. عدا ذلك، سيعبر قطار التحرير السيادي في المنطقة وقد لا نكون على متنه. وعندها لن ينفع البكاء وصريف الأسنان !
                                                                                                                                                            د. ميشال الشمّاعي