بين البهارات والحرير أين لبنان؟

دخلت منطقة الشرق الأوسط عهدًا جديدًا بعد قمّة G20، وستكون مقاربة الملفّات العالقة سياسيًّا من وجهة نظر تحاكي ما نتج عن هذه القمّة التي انعقدت في نيودلهي في التّاسع من شهر أيلول الجاري في غياب لافت للزعيمين الروسي والصيني. فتحوّلت هذه القمّة إلى مباحثات اقتصاديّة لتطويق هذين الماردين. وسط هذا التطوّر الجيواستراتيجي، لم يذكر لبنان بأيّ فاصلة من أي تفاهم أو اتّفاق برز.

في حين اعتبر ولي العهد السعودي الأمير محمّد بن سلمان أنّ الشرق الأوسط سوف يتحوّل إلى أوروبا جديدة في المرحلة القادمة. وعلى ما يبدو أنّ طريق بهارات الهند ستشكّل الوسيلة لتعطيل طريق الحرير المزمع انطلاقها من الصين. لكن المفارقة أنّ أيًّا من هذه المشاريع قد غيّب لبنان بالمطلق. وذلك ليس مستغربًا من قبل النّادي الدّولي الذي يعمل مع الدّول المستعرِة الاضطرابات السياسيّة كلبنان، على قاعدة ضبط الايقاع ليس أكثر. وما من عاقل يمكنه التصديق أنّ الدّول الكبرى قد تضع يدها بيد ميليشيا مسلّحة مصنّفة في أعلى المراتب على لوائح الارهاب. فلا يمكن للمجتمع الدّولي إشراك دولة مخطوفة من قبل منظّمة صنّفها إرهابيّة في أسواق دولية رسمية. الاحتمال الوحيد الممكن هو استخدام هذه المنظّمة كمسيِّرٍ لبعض عقود الغاز، أو شركات الخدمات المشغِّلَة المرافقة لهذا القطاع. فبنهاية المطاف الدّول الكبرى لا تتعامل إلا مع دول فيها الحدّ الأدنى من الاستقرار والأمن.

فالموضوع لا يرتبط ببنى تحتيّة فحسب، بل المطلوب هو الاستقرار. وهذا ما نجحت منظمة حزب الله بضربه كلّيًّا عبر ربطها لبنان بمشروعها المسمّى ” وحدة الساحات”، من طهران إلى بغداد والشام وبيروت وغزّة وصنعاء. وهذا ما حوّل لبنان طوال سيطرتها على الحكم بعد انقلاب السابع من أيّار 2008 إلى دولة غير مستقرّة، لا أمن ولا أمان فيها. حتّى الحرّيّة باتت مقيّدة! وما كنّا ندرسه في الصّغر عن دور لبنان كجسر عبور بين الشّرق والغرب سقط بفضل هذه السياسات التي أدّت إلى العزلة الكلّيّة.

والمفارقة في ذلك أنّ هذا الدّور قد انتقل إلى العدوّ الاسرائيلي الذي وقّعت معه منظمة حزب الله اتّفاق السلام الصامت في النّاقورة، فإسرائيل ورثت هذا الدّور وستصبح Hub State الوحيد في المنطقة. وهذا ما سيسمح لها أن تتحكّم باقتصادات دول المنطقة. وسط هذه الصفعة الاسرائيليّة للدور اللبناني التّاريخي تبدو منظّمة حزب الله نائية بنفسها عن أيّ صراع قد يستجدّ في المنطقة، إذ نجحت السياسة الدّوليّة بتصفير خطرها المسلّح. من هنا نفهم انتقالها إلى الاطباق على لبنان الدّولة بالكامل.

هذا الخروج اللبناني كدولة رائدة في المنطقة يأتي ثمرة لأعمال دويتّو الحكم في لبنان بين منظومة عاثت فسادًا أدّى إلى إفلاس الدّولة، ومنظّمة مسلّحة غطّت أعمال هذه المنظومة بالتكافل والتضامن معها، لأنّها سهّلت لها الوصول إلى تحقيق مشروعها الثورويّ، ذات البعد الإيديولوجي القائم على نظريّة الإمامة الإلهيّة المعصومة. وهذا ما قاله أمين عام المنظّمة عندما انزعج من السؤال الذي ساد الأوساط الشعبيّة عن دور منظّمته فصرّح علنًا على شاشات التلفزة:” الله كلّفني”.

وتكمل منظّمة حزب الله مخطّطها للسيطرة على الدّولة بالكامل. فبعد أن فقدت الورقة الانتخابيّة في جلسة 14 حزيران المنصرم، والورقة الفرنسيّة الدّاعمة لمرشّحها نتيجة تصلّب المعارضة، إضافةً إلى سقوط الحوار المفخّخ الذي دعا إليه دولة الرئيس برّي. لجأت إلى تحريك الجماعات الاسلاميّة في مخيّم عين الحلوة. وسط تساؤلات عن كيفيّة تسلّح هذه الجماعات في ظلّ إقفال المخيّم من قبل الجيش اللبناني، ما يثير عدّة فرضيّات كوجود أنفاق مثلاً، سبق للبنان أن شهد مثلها على الحدود الجنوبيّة.

وهذه الورقة هي محاولة تهديديّة بنقل هذه الحرب المستعرة بين الفلسطينيّين إلى خارج نطاق عين الحلوة. كما بدا لافتًا مؤخّرًا النّزوح السوري المنظّم الذي قد يكون الخطّة البديلة لإسقاط الدّولة بشكل نهائي في حال فشل الورقة الفلسطينيّة، أو على الأقلّ في حال استنفادها بالكامل.

وسط هذه الوقائع المحلّيّة، والمؤشّرات الاقليميّة والدّوليّة، لا يمكن بعد اليوم الوقوف من دون اتّخاذ خطوات استراتيجيّة في المواجهة. وذلك لأنّ المواجهة الكلاسيكيّة لم تعد نافعة أمام هذه المخاطر التي بات ما تبقّى من لبنان الدّولة أمامها تحت مقصلة التحلّل والزّوال. نحن أمام لحظات تاريخيّة وجوديّة. الحرب لا تنفع أحدًا. السلاح يقتل حامِلَه أوّلاً. والسياسة هي المنفذ الوحيد. لذلك تستميت الممانعة لتثبيت سيطرتها السياسيّة بقوّة السلاح لتؤمّن ديمومتها.

لكن إن استمرّ العقم السياسي يجب التفكير في حلول بديلة تحفظ ما تبقّى من لبنان الحرّيّة قبل فوات الأوان؛ على ألا تكون أيّ حرب داخليّة هي البديل. مع ضرورة اقتناص المومنتم الدّولي الوروبي الباحث عن انتصارات سياسيّة خارجيّة، ولا سيّما بعد إخراج فرنسا من القارة السوداء. إضافةً إلى مومنتم أميركي في السياسة الخارجيّة من البوابة السوريّة فرضته الانتخابات المرتقبة. كما لا يمكن لأيّ مجتمع أن يصمد من دون مقوّمات لهذا الصمود. لذلك كلّه، على كلّ القوى المجتمعيّة والحزبيّة والرّوحيّة على اختلافها الحضاري أن تعمل على توفير مقوّمات الصمود التي يجب أن تبدأ من ثلاثيّة حياتيّة كالآتي:

– حلول إسكانيّة عبر بناء منازل جاهزة في أملاك الأوقاف المهجورة، واستصلاح أراض للزراعة، وإنشاء تعاونيّات زراعيّة لهذه القرى المستحدثة؛ لتوفير فرص عمل للأجيال الصاعدة. على أن يكون المنقول ملكًا للناس بينما يبقى غير المنقول ملكًا للأوقاف.

– دعم القطاعات التربويّة الرّسميّة أوّلاً والخاصّة ثانيًا لتأمين ديمومة المجتمع الثقافيّة والتعليميّة التعلّميّة.

– توفير القدرة الاستشفائيّة للجميع لضمان الأمان الصحّي للشعب اللبناني.

وذلك كلّه في إطار جغرافيٍّ حرٍّ اتّحاديٍّ حياديٍّ تعدّديٍّ وحدويٍّ لا وجود فيه إلا للدولة ومؤسّساتها. وإلا لن ينفع البكاء وصريف الأسنا

د. ميشال الشمّاعي