الصراع بين مشروعين وجوديَّين هو الذي يشلّ حتّى الساعة الوضع اللبناني، ويمنع عجلة الحياة من الانطلاق. فلا يمكن بعد اليوم لهذا الصراع أن يستمرّ، لأنّه سيقضي على لبنان الحضارة والتاريخ والحياة. ولكن الإشكاليّة الكبرى تكمن في كيفيّة إنهاء هذا الصراع في ظلّ الاختلاف حول سلّم الأولويّات الاستراتيجيّة. إلا أنّ القاسم المشترَك الوحيد عند اللبنانيّين الذين يريدون لبنان الحياة يتجلّى فقط في لبنان الدّولة. فهل سيستطيع مشروع لبنان الحياة الانتصار على مشروع الموت الذي لا يشبه لبنان؟
توجّه المفتي الجعفري الممتاز الشيخ أحمد قبلان في بيان لغبطة البطريرك الكاردينال مار بشارة بطرس الرّاعي معتبرًا أنّ الغزو الأميركيّ طاحن والبلد يحتاج الى كل بنيه، والتضامن والحوار ووحدة الحال ضرورة وطنية إنقاذية. كما اعتبر قبلان في حديثه أنّ بعض المسيحيين لا يريد رئيسًا مسيحيًّا. يبدو أنّ سماحته يحاول التذاكي على اللبنانيين معتبرًا أنّه يمكن أن يستغبيهم، إذ من غير المعروف مَن يعيق عمليّة انتخاب الرئيس المسيحي، والحوار الحقيقي الذي لا مكان له سوى تحت قبّة البرلمان اللبناني. لكأنّ اللبنانيّين لا يعرفون في جيب مَن قابع مفتاح البرلمان ؟!
فمن الواضح أنّ سماحته قد أوقع ذاته في الحفرة التي ما زال هو ومحوره قرابة السنة يقومون بحفرها. فريق إيران هو الذي يعطّل الدّولة برمّتها، وليس انتخابات رئاسة الجمهوريّة وحسب، لأنّ تعطيل قيام الدّولة اللبنانيّة يمدّ دويلة إيران في لبنان بالحياة؛ لذلك، محوره يعطّل دولة لبنان ليمدّ دولته الخاصّة بالحياة. وهذا ما لن يتمكّن من الاستمرار به إلى ما لا نهاية، لأنّ مسار التّاريخ هو دائمًا للحياة وليس للموت.
والكارثة الأسوأ التي تطال الدّولة اللبنانيّة اليوم بسرّ وجوديّتها في مشروع جيشها وشعبها والحياة فيها هي تلك الحرب التي يقودها محور سماحته في العالم. وما مِن عاقل يقبل بنوعيّة هذه الحياة التي يحاول هذا المحور فرضها، بعدما يعاين أنموذجاتها في دول سيطرته. ومحاولة إقناع جمهوره بأنّ أميركا الشيطان الأكبر تخوض حربًا كونيّةً عليه، بعدما وقّع بمباركتها، مع ربيبتها إسرائيل، اتّفاق سلام صامت، مقابل استمراره في الحكم في لبنان، على قاعدة تأمينه المصالح الاستراتيجيّة النفطيّة دوليًّا؛ هذه المحاولة قد سقطت عمليًّا. حتّى جمهوره مدرك هذه الحقيقة.
واستمرار هذا المحور وقياداته بالغمز من قناة بكركي في كلّ لحظة، إن كان في موضوع الطائف، أو الرئيس المسيحي، أو اللامركزية، أو الحياد، هو مواجهة فاشلة لأنّ العمالقة لا تواجَه من قبل صعاليك. فبكركي لم تكن يومًا على حياد في أيّ حرب تُخاضُ ضدَّ مظلوم. فالحياد الذي حملته بكركي هو مشروع وطن قابل للحياة، ولن يكون حيادًا مع باطل ضدّ حقّ. فاللبنانيّون عاينوا مَن وضع يده بيد الباطل وناصره بعدما ادّعى محاربته تحت مسمّى ” المقاومة” مقابل أن يؤمّن المصالح الدّوليّة ليبقى متحكّمًا بالساحة اللبنانيّة.
وإن صدق سماحته بمسألة واحدة هي باعترافه أنّ لبنان هو تحت الغزو. وهذا الغزو هو غزو صفويّ لا يشبه حتّى شيعة جبل عامل ولبنان كلّه بأيّ شيء. وهو مرفوض والأكثر، مُحَارَبٌ بالوسائل المشروعة كلّها حتّى ينتصر مشروع الحياة والدّولة السيّدة الحرّة والمستقلّة عن المحاور كلّها، من أميركا غربًا حتّى الصين شرقًا وإيران وسوريا والسعوديّة ما بينهما. لأنّ هذه الدّولة لتعيش ستكون دولة محايدة، كما طرح سيّد بكركي.
وقالها البطريرك اللبناني، وليس الماروني فحسب، “إنّ الكنيسة لن تتهاون بشأن كلّ هذه الأمور السلبية في لبنان. لن تسكت عنها.” وشتّانَ بين ما قاله غبطة الكاردينال وسماحته. فبعد عظة أوستراليا لن يكون كما قبلها. فعلى ما يبدو أنّ سيّد بكركي سيرفع سقف المواجهة ويضع الاصبع على جرح الوطن الحقيقي، وقد تكون تسميته الأمور بأسمائها أولى بشائر هذه المواجهة.
وأعلنها بصريح العبارة أنّ الكنيسة “لن تدع لبنان وشعبه فريسة الظلم والاهمال والإستبداد والإستكبار ولن تصمت عن التنديد بعدم إنتخاب رئيس للجمهورية، وبتعمّد تغييب رئيس البلاد المسيحي الوحيد في اسرة جامعة الدول العربية، ومعه تغييب الثقافة المسيحية التي كانت في اساس إنشاء الدولة اللبنانية الموصوفة بميزاتها. ”
هذا الرئيس الذي ولدته بكركي في إعلان لبنان الكبير في الأوّل من أيلول ١٩٢٠؛ وعمّدته في الاستقلال وثبّتته في الطائف. فهي لن تتنازل عن إنجازات التّاريخ. ليس لأنّها تعتبر الرئيس المسيحي هو للمسيحيّين فقط، بل لأنّها تؤمن أنّ هذا الرئيس بالذات، لا يمكن أن يكون إلا للبنانيّين الكِيَانيّين كلّهم، عبر “المشاركة المتساوية بين المسيحيين والمسلمين في الحكم والإدارة، التعددية الثقافية والدينية في الوحدة، وحياد لبنان الإيجابي لكي يواصل أداء رسالته الخاصة به في بيئته العربية.” كما قال غبطته في عظة أوستراليا أمس. هذه هويّة الرئيس التي كرّسها الكاردينال الراعي من أوستراليا. ولن يكون أيّ رئيس لا يحمل هذه الهويّة بالذات.
فدعوة الكاردينال الراعي اللبنانيّين الاوستراليّين لتسجيل قيد نفوسهم في السفارة والقنصليّات في أوستراليا للاحتفاظ بالجنسيّة اللبنانيّة وسائر الحقوق الوطنيّة، التي اعتبرها واجبًا وطنيًّا إنّما هي فعل إيمان تلته بكركي من أوستراليا للانتشار اللبناني كلّه في أصقاع العالم الأربع، كندا وأميركا كلّها إلى أوروبا وأفريقيا والعالم كلّه، أنّ اللبنانيّين المنتشرين هم لبنانيّون كِيَانيّون، لن يقوم مشروع لبنان الحياة من دونهم لينتصر مشروع بكركي. فهل سيجرؤون هذه المرّة، كما دائمًا، حيث لم يجرؤ الآخرون، ليكونوا هُمُ صوت لبنان الحياة في المجامع الدّوليّة لتنتصر بكركي؟
د. ميشال الشمّاعي
المزيد من القصص
بيار بو عاصي في ذكرى 14 آذار
في الذكرى العشرين لـ 14 آذار
هذا الإنجاز الطبي المذهل يمثل خطوة ثورية في عالم زراعة الأعضاء وعلاج أمراض القلب الحادة