مالك طوق “القرنة السوداء”… وهيثم طوق “سمائها”

طفت على واجهة الأحداث السياسية اللبنانية راهنًا حادثة مقتل الشابين البشرّانيين هيثم ومالك طوق، وبعدما تمّ تأبينهما من قبل البطريرك الماروني الكلردينال مار بشارة بطرس الراعي في كاتدرائية السيدة العذراء في يشري يوم أمس، استكانت النفوس على وعود من السلطات الأمنية والعسكرية والقضائية لفعاليات بشري السياسية بكشف ملابسات هذه الحادثة، وصولاً إلى توقيف الجناة وسوقهم إلى قوس العدالة. وأقلّ من ذلك، لن يستطيع أحد بلسمة هذا الجرح، وإيقاف نزفه. لا سيّما وأنّ المنطقة المذكورة تعرف بنقيضيها: الالتزام العائلي العشائري، والإلتزام الحزبي السياسي. وأمام هذا الحدث الأليم تبقى الإجابة مُجهَّلةً عن الإشكاليّة الآتية: مَن هو مَالك طوق القرنة السوداء؟ وهل يستطيع الهيثم، أي الصقر، أن يسهر على قدسيّة قمّة الشهداء؟

لن ندخلَ في تكهّنات واتّهامات مضمَرَة بانتظار نتائج التحقيقات. لكن أمام قضاء لم يجرؤ بعد أكثر من سنتين ونيّف على كشف حقيقة ثالث أقوى تفجير أو انفجار في العالم بعد قنبلتي هيروشيما وناغازاكي (١٣ كيلوطنًّا في السادس من آب ١٩٤٥ فوق المدينة الأولى، وفي التاسع منه القنبلة الثانية بوزن ٢١ كيلوطنًّا فوق المدينة الثانية) ، نتيجة تخزين جهة مُجَهَّلَة أكثر من ٢٧٥٠ طنّا من مادة النيترات في مرفأ العاصمة بيروت؛ يتساءل اللبنانيّون عن قدرة هذا القضاء نفسه على كشف حقيقة هذه الجريمة. ويبقى الأمل موجودًا في حال لم تدخل السياسة في هذه الجريمة النكراء، لأنّ القضاة النّزيهين هم أمل لبنان الغد. أمّا في حال تسلّلت السياسة بوحولها إلى قلب هذه القضيّة، فلن يبقى أمام اللبنانيّين سوى التضرّع لربّ القوّات الذي وحده سيكشف الحقيقة.

إضافةً إلى ذلك كلّه، وكما لكلّ قمّة طوق، لقمّة الشهداء طوق تسيّجَ بدماء الشهداء عبر التّاريخ، وهيثم يحوم فوق غيومها يسهر على إرث الشهادة في ترابها وثلجها منذ أكثر من ألف وأربعمئة سنة. وهذا الطوق وحده هو الذي يرسّم حدود هذه الجرود. ولا يمكن لأيّ قانون أو خطٍّ طوبوغرافيٍّ أن يرسّمها، لأنّها رُسِّمَت عبر التّاريخ بدماء أبنائها. لذلك، هؤلاء وحدهم يحقّ لهم أن يملكوا طوق هذه القمّة. ومالك طوق قمّة الشهداء وحده يقدّر قيمة الأرض التي ارتوت بدماء رفاقه. وهي تروي اليوم أبناءها بينابيعها العذبة. وهي بحمى ذلك الهيثم الذي لا ينعس.

لا يظنّنَّ أحد أنّه يستطيع تغيير هذا التّاريخ الذي بدأ من قمّة الشهداء وما انتهى بوادي القديسين. إنّه أكثر من تاريخ، إنّه حضارة شعب تنازل طوعًا عن لغته السريانيّة، وتكلّم العربيّة التي سَرْيَنَهَا وجعل منها لغةً لبنانيّة نقيّة لتكون هي أداة التواصل مع مَن ارتضى أن يعيش معهم مبدأي الخلق: التكامل والتنوّع. وذلك في إطار وطنيٍّ تعدّديٍّ. لكن الخلط بين مالك طوق قرنة الشهداء وكاسر حدود ال 10452 كلم2 لصالح إيديولوجيّته الثيوقراطيّة المذهبيّة أضاع حدود هذا الوطن، وجعل هويّته الكيانيّة تهتزّ. لكنّ هيثم قمّة الشهداء سهران لا ينام.

الحقيقة الساطعة هي أن لا خلافَ مبنيٌّ على أسس مذهبيّة طائفيّة أو حتّى إثنيّة مناطقيّة، بل حقيقة أيّ خلاف حول أيّ شبر أرض يكمن في غياب سيادة الدّولة والقانون. والمستفيد الأوّل هو الذي يسرح ويمرح في هذه الدّساكر والقلاع من دون أن يحترم حدودها. أو ذلك الذي يجعل من عدم ترسيم الحدود ذريعة ليحمل سلاحًا بوجه العدوّ الذي نعاديه بحسب دستورنا وعقيدتنا الإيمانيّة. فيما أسلافه صلبوا مسيحنا منذ أكثر من ألفي سنة، مَن يدّعون اليوم مقاومته أهدوه الخطّ 29 في البحر وما يحويه من نفط وغاز. والله أعلم كيف سيكون الترسيم البرّي بعد هذه الهديّة البحريّة! وهؤلاء أنفسهم رسّموا حدودهم معه، ووقّعوا اتّفاق السلام الصامت حفاظًا على وجوديّتهم.

لا حلّ إلا باسترجاع السيادة اللبنانيّة كاملةً. وقد لا يكون اليوم القرار 1559 كافيًا نظرًا لاختراقه باتّفاق السلام الصامت، والتفاهمات الإقليميّة بين الأولياء. لا ينتظرنّ أحد في لبنان أيّ حلول قد تأتي من خارج الحدود، وقد لا تأتي أبدًا. لكن ذلك لا يعني ألا نضع الأسرتين العربيّة والدّوليّة أمام مسؤوليّتيهما تجاه لبنان؛ الدّولة المؤسِّسَة في جامعة الدّول العربيّة وفي هيئة الأمم المتّحدة.

إنّما الحلّ يبدأ من قلب لبنان عبر إعادة ترسيم الأقضية والمحافظات على قاعدة احترام الهويّة المجتمعيّة التي هي علّة وجود لبنان التعدّدي، وليس لبنان العددي الذي يطمح بعض المتسلّقين على التفاهمات الدّوليّة، والزاحفين تحت اتّفاقات السلام الصامتة بالوصول إلى تحقيقه. فليطمئنّ اللبنانيّون جميعهم، لبنان كلّه مالك طوق التعدّديّة الحضاريّة ولن يكون إلا هكذا. ولهذا اللبنان بالذات هيثم طوقه السماء يحرسه من عليائه. وأمّا إنْ هؤلاء الذين يقوّضون السيادة ويرفضون تحقيقها حتّى الساعة، إنْ لم يقبلوا بلبنان مالك طوق السيادة، فعليهم أن يلتحقوا بالأمّة أو الوطن الذي يحملون عقيدته، لأنّ هيثم طوق السماء قد طَوّقَ لبناننا بجناحيه. ولن يكون لبنان إلا مالك طوق السيادة، وتحت جناحي هيثم طوق السماء. شاء مَن شاء وأبى مَن أبى.

كتب د. ميشال الشمّاعي