من أرتساخ إلى وادي قنّوبين قضيّة واحدة

ما يحدث في أوروبا مريب. هذا الصمت المطبق أمام عمليّة التطهير العرقي التي مارسها الأذريّون بحقّ الأرمن في إقليم أرتساخ غير مقبول، ولا يمكن مقاربته إلا من زاوية المصالح الاقتصاديّة الخالصة. على ما يبدو، باع الأوروبيون الأرمن في أرتساخ، بهدف الحصول على غاز أذربيجان كي لا يبردوا في الشتاء. هذه أدنى دركات الانحطاط القِيَمي التي وصَل إليها الغرب. فالمصالح الاقتصاديّة لا تبرّر التنازل عن حرّيّة الشعوب.

اللافت في لبنان، كيف سارع الممانعون إلى إطلاق نظريّة ليست جديدة، الهدف منها تبرير موبقاتهم بحقّ الدولة ككِيان مستقل قابل للحياة. ومفاد نظريّتهم هي: “لو أنّ الأرتساخيّين يملكون سلاحاً لتمكنوا من مقاومة الأذريّين ولما حصل بهم ما حصل”. يبدو أنّ هذا الفكر قد تحوّل إلى حالة مرضيّة لا تقبل بالانضواء في دولة، بل جلّ ما تدعو إليه هو الخروج عن الحالة الشرعيّة للدّولة في أيّ مكان من العالم.

ولكن في طرح هؤلاء غاية في نفس يعقوب. ليس بريئاً أن يستنهضوا هذه النّظريّة في محاولة منهم أوّلاً لتكريس طريقة عملهم، وثانياً لتبرير أيّ عمل قد يقدمون عليه بحجّة مواجهة مَن قد يتهدّدهم. والملفت في الحالة اللبنانيّة هو حصر السلاح غير الشرعي بيد هذا الفريق وحده، ما يدفع إلى الاستنتاج أنّهم يبرّرون مرّة جديدة احتمال استعمالهم للسلاح ضدّ الدّولة، أو استعمالهم هذا السلاح في حال قصور الدّولة عن أداء واجبها في مكان ما، لتكريس أحقيّة هذا السلاح.

قد يكون ملفّ النّزوح هو ما يتمّ الإعداد لاستخدامه كصاعق لتفجير الساحة اللبنانيّة من الدّاخل بأدوات من الخارج. هذا الخارج المَدِينُ لمنظّمة حزب الله التي نجحت بالمساعدة الإيرانية في الحفاظ على رأس النّظام البعثي. وليست بريئة اليوم عمليّة تنشيط البعث فرع لبنان عبر افتتاح مراكز جديدة قد تكون من أبرز مهامها إدارة هذه العمليّة التي يحضّر لها.

أمّا بالنّسبة إلى الوجود المسيحي الحرّ في لبنان، فلا يهوّلنّ أحد على المسيحيّين حيث أثبتت التجربة انّه عندما يدقّ الخطر على الأبواب يتحوّلون إلى مقاومة لبنانيّة، لكنّ الأولويّة عند هذا الفكر الحرّ تبقى في دعم وجوديّة الدّولة، والوقوف خلف مؤسّساتها. وهنا بالذات نقطة الخلاف مع روّاد محور الممانعة الذين لا يعترفون إلا بدولة يسيطرون فيها على كلّ شيء. من هذه الزاوية أيضاً تأتي مقاربة الموضوع الرئاسي الذي بنجاح المعارضة اللبنانيّة في تحقيق فوزها بهذا الملفّ، تكون قد سدّدت ضربة قاضية لهذا الفكر غير المؤسّساتي.

لبنان اليوم هو نفسه منذ فجر التّاريخ. لن تنجح منظمة “حزب الله” بفكرها التّدميري، بتغيير هويّته لسبب بسيط جدًّا، وهو لأنّ المؤسّساتيّين في هذا البلد كثر، ويتقنون جيّداً أسس اللعبة السياسيّة. وهذا ما لا يفقهونه دعاة الممانعة الذين يجالسون ويوقّعون اتّفاق السلام الصامت بخجل مع العدوّ. مقابل ذلك، التّاريخ يشهد، وآخره في ١٤ تشرين الأوّل منذ العام ٢٠٢١، على تخوم عين الرّمانة، حيث نجح الأهالي العزّل بوقوفهم خلف مؤسّسة الجيش اللبناني، بالتّصدّي لمحاولة تفجير صاعق حرب أهليّة جديدة.

هذه هي الحنكة السياسيّة التي افتقدها الأرتساخيّون. زد على ذلك، السكوت الدّولي مقابل تأمين المصالح. صحيح أنّ منظّمة “حزب الله” أمّنت مصلحة العدوّ الاسرائيلي في ٢٧ تشرين الأوّل من العام ٢٠٢٢ يوم توقيعها اتّفاق السلام الصامت معه لتضمن له عمليّة استخراجه للغاز من البحر، لكنّ حدود التعامل الدّولي معها لا يتعدّى حدود التعاون مع دولة ومؤسّسات. لذلك هي تبقى على قيد الحياة طالما تنجح بجعل الدّولة ميتة. وعندما تحيا الدّولة اللبنانيّة، تموت هذه المنظّمة ومحورها بالكامل.

وكي لا يصبح المسيحيّون في لبنان أرتساخيّين، يجب العمل بكلّ ما يملكون من قوى، بالتعاضد والتكامل، على مدّ الدّولة اللبنانيّة بالحياة. وهذا ما قد تحقّقه أوّلاً رئاسة جمهوريّة إصلاحيّة سياديّة، تستطيع إعادة نبض الحياة إلى شرايين مؤسّسات الدّولة. وثانياً، عندما تعود الحياة إلى الدّولة، تنال هيبة واحترام الأمم كلّها، ويصبح لصوتها دويّاً مسموعاً. حتّى لو لم تكن من صلب اهتمامات المجتمع الدّولي.

من أرتساخ إلى وادي قنّوبين قضيّة واحدة إنسان واحد في كلّ زمان وفي كلّ مكان. عنوانها الصمود. ومدّ الحياة للكيان والدّولة والمؤسّسات. وفي حال سقوط هذا الفكر، وموت الدّولة؛ فالموت وقوفًا خير من الحياة محنيّي الرأس. إن ربح الباطل جولة يبقى باطلاً لو اعترفت به الأمم كلّها؛ وإن خسر الحقّ معركةً يبقى حقّاً لو لم يعترف به أحد.

د. ميشال الشمّاعي